الأخبار التي تقدم لنا في أطباق مكسورة للغة التطرف والتعصب والحقد في كل مكان ما زالت تبرهن على فشل التكنولوجيا في أن تكون هدفا للحياة، وتبرهن في المقابل على فشل الحضارة المادية في أن تقدم المحراب البديل عن المسجد، والأمن بديلا عن الفوضى، والحوار بدلا عن الضجيج والصراخ، لقد فشل بعض رجال الدين التقليديين- بكل طوائفهم- في مخاطبة الأجيال الجديدة فأصبح الباب مفتوحا لأي دعوى متطرفة براقة يقودها شيطان ملثم يجيد فن التمثيل والتلون والحديث كل هذا طبعا باسم الدين الذي يمرر من خلاله كل طرف برجماتي أهدافه ومطامعه. فصورة الرجل الذي يصرخ داعيا لله فيجتمع حوله المئات في طاعة وبراءة الأطفال، هي نفسها الصورة التي يسوق لها المتطرفون من جميع الأديان وهم في الواقع يسوقون لدين أنفسهم وبقاء مصالحهم، وحتى لا يخسروا كرسي ولاء أتباعهم، فالأب جيم جونز صاحب الطائفة البروستنتية من قبل 1965م في كاليفورنيا كان شخصية معروفة بهذه الحرفة- وما أكثرهم اليوم- فهو من أوائل من عرف بأنه جّر أتباعه إلى مجزرة باسم الدين، وهتلر في كتابه «كفاحي والنازية» حينما اقتحم المجر والجيش الروسي كانت من نفس هذا العيار الذي يغني على وتره كل أحد، فهي محاولات متلونة لترويج مصاحف بديلة، وإعلان آلهة جديدة، وسوق الأتباع إلى ولاء أعمى وتحمس ديني تتعدد فيه الرايات والتوجهات أحيانا وتختلف، ولكنها ذات مركز واحد تقود لجّر الشباب من نفس الزاوية المتكلمة باسم الدين لاحتواء الفراغ الذي يعيشه الشباب حينما لم يجد قناة حكيمة ورائدة تحكمه أو تستوعبه. ولعل ما صرحت به أخيرا وزارة الداخلية مشكورة من إلقاء القبض على عدد كبير من منفذي «حادثة الدالوة» يسفر عن وجه وثوب جديد للتطرف المنتمي للفكر الداعشي والذي حاول الاختراق من العلو والداخل، وأظن أن سيناريو النهاية لتطرفهم لم ينته ما دام يلقى من يغذيه في الداخل والخارج. والتاريخ قديما حينما قدم لنا بروز المتطرفين أمثال الخوارج والقرامطة، وهتلر وستالين وماركس وجماعة القس جونز ومن قبلهم، وجماعات أمثال التكفير فكل هؤلاء اعتقدوا أنهم نجحوا في تمرير آراءئهم في مجتمعهم لأنهم قدموا همزة وصل مزيفة، والمحراب بدلا عن المسجد أو الكنيسة. والواقع الذي نشاهده والذي ما زال يخبئ كوامن وبراكين هادئة قابلة للانفجار لم يعد يقتنع بالحبوب المسكنة، والعلاجات الجزئية، وإنما يجب أن تواجه بأسبابها وعلاجها بإصلاح جذري، فشريحة المجتمع التي يغذيها القهر أو العاطلة عن العمل، أو التي أنهكتها سياط الفقر وهي تريد أن تعف نفسها، أو الذي سرقت أمواله باسم الدين أو ضعف الرقابة المؤسسية، أو الذي يلاحقه الغرماء في كل مكان هو فريسة سهلة لكل دعوى تطرفية، فهو محتاج لهمزة الوصل الحقيقية التي تملأ خرائب النفس وتعمر خواء الشباب وتنور باطنه، وتعيد توازنه. إن الدعوة المناسبة لمحاصرة التطرف ومواجهة كتّاب حكاياتها تبدأ من دعم وتقوية الجبهة الداخلية وتعميق اللحمة الوطنية ثم التحدث بلغة العصر من غير تحيز أو تعصب أو تطرف وبنفَس متسامح، ومحاولة إيقاظ بقايا الروح ومصافحتها وملامسة حاجاتها، وربط همزة الوصل المنقطعة، واعتقد أن المثل العربي القائل: «إذا كان الإنسان كريما جوادا نسي الناس عيوبه» و«شبع البطن تستحي العين» لغة مجربة ومجدية لمن حاربوا محاصرة التطرف، وفي المقابل فالتمحور حول الدين المنزل بروحه وجوهره لا بشكلياته، القائم في تعاليمه على الوسطية والحكمة والتعقل هو دور من جميع العقلاء والمربين، هذا الدين الذي يحب العلم، ويدعو للتقدم والإبداع. من هنا يمكن أن يبدأ المشوار لإزالة كوامن التطرف الحقيقي، وقطع الطريق على مسوقي بضائع الشر والتطرف باسم الدين. حفظ الله أمننا وقيادتنا من شر كل ذي شر.