يظن الكثيرون أنه كلما زاد مستوى إطلاع الإنسان وارتفعت حصيلته المعرفية كان أكثر استقلالية أو كان على أقل تقدير أقل انسياقًا وذوبانًا في الثقافة الغربية التي تبسط أجنحتها على معظم مناحي حياتنا المعاصرة. هذا الرأي يختلف معه عدد من المفكرين والباحثين حيث يرى هؤلاء أن المثقفين قد يكونون أكثر فئات المجتمع سقوطًا في التبعية الفكرية والذوبان في القيم الغربية السائدة ويعزون هذا الأمر لعاملين: الأول: إن الفئة المتعلمة من أي أمة من الأمم المتخلفة هم الذين يتعرضون تعرضًا مباشرًا للتعامل مع الغرب، وعادة ما يشكلون حلقة تواصل بين الغرب وبين بني قومهم الأقل تعليمًا وإطلاعًا، كما أن هذا التواصل المباشر يجعل هذه الفئة المثقفة تعاين أدوات القوة التي يملكها الغرب ومظاهر الرخاء المادي والتقدم العلمي في جامعاتهم ومجتمعاتهم، وهذا كله ينمي الشعور الداخلي بالتخلف والدونيّة الذي يفرز إحساسًا بأن التقدم والرقي والحضارة مرتبط بهذا المجتمع أو تلك البلاد. الثاني: أن قرب المثقف من ثقافة الأجنبي وكونه يشكل حلقة اتصال وجسر عبور بين الغرب ومجتمعه يجعله لدى أذكياء العم سام مستهدفًا بأن يكون وكيلًا محليًا لثقافتهم وسفيرًا فوق العادة لقيمهم وأفكارهم في المجتمعات الأخرى، ولا شك أن تحمّل أعباء نقل ثقافة دخيلة لمجتمعات بعيدة عن هذه الثقافة جغرافيًا ودينيًا وثقافيًا له تكاليفه الباهظة ، وغالبًا ما يتم رصد «مكافأة مجزيّة» للقيام بها، فترى هذه الطبقة من المثقفين تحظى بامتيازات لا تتناسب مع إمكانياتها ولا تاريخها العلمي والوظيفي. ولعل من نافلة القول إني لا أقصد وقوع (كل) المثقفين في شراك التبعية كما لم أرد قطعًا التزهيد بأهمية التواصل مع الأمم المتقدمة في المضمار الحضاري والاستفادة من سبقها العلمي والمادي، ولكن المقصود مراجعة فكرة سائدة في مجتمعاتنا العربية التي خلاصتها أن ثقافة الإنسان وكثرة إطلاعه تكفي لوحدها ليكون المرء مستقلًا متجردًا من التبعيّة الفكرية والثقافية (للآخر).