كان الاهتمام في السنوات الفارطة منصبا على الاعتدال الفكري، وقد آتى أكله، لكن هناك تطرفا ثقافيا كان وما زال وأتمنى أن لا يبقى، وهو تطرف جر المجتمع إلى فئوية ثقافية مقيتة، فإما أن تكون مثقفا تراثيا تتمترس خلف الماضوية وتعيش في كهوف الماضي، وإما متمردا على الثوابت متجردا من الهوية مستندا على رصيد سطحي من النظريات الغربية تردده في كل مناسبة، وبين هذه وتلك غاب المثقف المعتدل، وفقد مكانه ومكانته، وظهر المجتمع ثقافيا في صورة من لم يبلغ رشده الثقافي، وكأنه يعيش عيشة الأغرار في حمى رمزية متورمة ثقافيا حينا، ومدعية الغيرة على الثوابت المقفرة من كل فعل إيجابي أحيانا، في حين أننا في الحقيقة كمجتمع نعيش كما تعيش الأمم في أوطانها، حططنا عن كواهلنا أثقال الانطواء والتمترس خلف الماضي بلا وعي، وأمطنا عن أعيننا غبش الرؤية للثقافة المستجلبة الهشة، وأصبحنا نفهم معنى الاستقلال بالذاتية المجتمعية والتمايز، وأدركت أجيالنا أن الثقافة ليست ترديد مصطلحات وإنما مؤسسات تبنى، وطرق تنهج، وجسور تمد، وثقافة تنتشر، وأمن يستقر، وحضارة تزدهر، وليس طرحا متمردا على الثوابت متنكفا كل موروث، ولا ادعاء لامتلاك الحقيقة. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى أن نبدأ مرحلة تكريس الاعتدال الثقافي؛ فالاعتدال يعلو بأجيالنا من التبعية الغربية التي تزدري أدبنا، وتمحو تاريخنا، وتطمس معالم ثقافتنا إلى مساحات الحضور الفاعل المتكئ على مخزوننا المعرفي، كما أنه يميط ظلام من لا يرى أن لنا ثقافة تحتذى، أو تاريخا يليق، أو صوتا يسمع، أو لغة تصلح للحياة، وهو ينفث خبث التمرد الذي يقوم على تمزيق القيم، وهدم النسيج الاجتماعي المتكاتف المتآلف، وزرع حدود وقيود وتصنيفات تسقيها خطابات تدعي الغيرة على الثقافة وهي إلى الغارة أقرب؛ لأنها توزع المجتمع إلى فئويات ضيقة تتطارح ولا تتصالح، وتتناحر ولا تتحاور. إن العقول الثقافية في الماضي شطحت فتناست واجبها، وتخلت عن مسؤوليتها، وتحول التواصل الحضاري لديها من تلاقح ثقافي إلى: إما عقل خائر خائف، أو مرتم وغير منتم، وهذه النتيجة هي التي تحتم الاستغاثة بالمثقف المعتدل، الذي يملك القدرة على احتلال الموقع، والقضاء على فلول المتثيقفين وأصحاب الأحكام العاطفية والاندفاعات غير الراشدة التي جرت المجتمع إلى معارك تأكل الأخضر واليابس، وتؤصل للأحقاد، وتوغر الصدور، وتؤجج النزاعات، وتعلن الحرب على كل منجز ناجح أو دعوة راشدة أو رأي واع، أو مفكر مبدع، وألقاكم. تويتر @aanzs1417 [email protected]