فكرة المحتوى الجيد والمفيد هي ما تشغل بال المنتجين وصناع الثقافة في كل العالم، وليس الأمر مقتصراً على الإعلاميين فقط، بل كل من لديهم رسالة نحو عموم الناس والفئات المستهدفة من الصناعة المعرفية كالتربويين والأكاديميين والإعلاميين والمدربين وغيرهم. ومع ازدياد ثقافة الابتكار في المحتوى والوعي بها من خلال المؤتمرات ومراكز البحوث والدراسات، ورصد بعض الدول لميزانيات ضخمة في صناعة المحتوى وتسويقه بشتى أشكاله إلا أن الإذاعات العربية الخاصة بعيدة كل البعد عن هذا المشروع التنموي، ومع الأسف فهذه الإذاعات التي تمَّ الترخيص لها بملايين الدولارات آخذة في تسميم الذوق العام، وتسطيح ثقافة المتلقي العربي في كل مكان. لدينا اليوم عشرات الإذاعات على الإف إم، لكنها نسخة واحدة مكررة من ناحية محتواها في البرامج الحوارية الهشة، والأغاني الهابطة، والفواصل الدعائية، والتركيز على ثقافة التمييز والعنصرية لدى جماهير الشباب وخاصة في المجال الرياضي. لعلك تحذف كل اللوجوهات عن تلك الإذاعات وعندها ستدرك أنك تسمع إذاعة واحدة وليس إذاعات مختلفة. وإذا كان الهدف الأساس من إنشاء هذه الإذاعات هو الربح المادي فهو ربح مادي سريع على حساب ذوق المتلقين وتنميتهم نحو التفكير والابداعات الخلاقة. إذا كان ولا بد من هذا التوسع في منح تراخيص إذاعات إف إم فلماذا لا تكون تلك الإذاعات تخصصية؟ لماذا تنحو منحى الترفيه الساذج من خلال الأغاني التافهة، والمسابقات الغبية، والإيقاعات المركبة المجنونة؟ لماذا لا نجد إذاعة للقرآن الكريم بصورة إبداعية راقية؟ لماذا لا نجد إذاعةً في التنمية البشرية؟ لماذا لا توجد إذاعة لتعليم الفنون والعلوم الإنسانية؟ لماذا لا توجد إذاعة في الموسيقى العربية الأصيلة؟ لماذا لا توجد إذاعة تعليمية متخصصة لكبار السن؟ لماذا لا توجد إذاعة متخصصة للفتيات؟ لماذا لا توجد إذاعة متخصصة للأطفال؟. إن الأفكار كثيرة نحو انشاء إذاعات، وليس من يعجز في ابتكار النوع والفئة المستهدفة والمحتوى الجيد، ولكن لن يكون ذلك ولدينا رؤوس أموال ضخمة توضع في غير أماكنها الحقيقية، إنها رؤوس أموال تريد الربح السريع والسريع جداً، وإذا عرفنا أن أخلاق رأس المال الإعلامي والثقافي جائرة ومخربة للذوق العام، فأين هو رأس المال الخيري؟. نعم توجد لدينا مشكلة كبيرة في رؤوس المال الخيرية، فغالب أصحابها لا يعي الخير إلا في بناء مسجد أو حفر بئر ماء أو توزيع الصدقات على الفقراء! وربما استغلت هذه الأموال لتمويلات مشبوهة! إن رؤوس المال الخيرية مطلوب منها الدخول في تعزيز التنمية في الفكر والتعليم والثقافة الشعبية من خلال إذاعات إف إم، ومطلوب منها كذلك أن توسع من مداركها في مسألة أن الخير لا يقتصر على ما ذكر سابقاً، بل من الخير أيضاً أن ننقي المجتمع من ثقافة التسطيح، وتسميم السماع، والعبث بغرائزه العاطفية نحو الهيجان والشهوات الرخيصة، وليس هناك من سبب في تسرب بعض رؤوس الأموال الخيرية إلى جهات ومنظمات مشبوهة إلا لأنها ليست حضارية في تفكيرها، ولا تعي ما يحيط بعالم الإنسان من تسميم وتغيير واستغلال من الضعفاء! ولكن لو كان رأس المال الخيري واعياً وذكياً، وبعيداً عن تفكير الدراويش، فستجده مساهماً في التنمية البشرية والمعرفية بأرقى المستويات. إن المتلقي لإذاعات إف إم مسكين، وهو محروم من المحتوى المُلهم والمحفز؛ لأن رؤوس المال تقع بين قطبي التطرف ما بين التسليع والمادية البحتة، وما بين الدروشة للقيم الدينية والإنسانية، وغالب الأفكار الإيجابية ذات المضمون الناجح لا تدعم ولا تمكن. ولعلها رسالة لا بد أن تصل لكل المسؤولين وصناع القرار أنهم يساهمون في تدمير التنمية بمنح العقود الإعلامية لمن يخرب وليس لمن يعمر! أليس من الضروري أن ترفق لائحة بماهية المحتوى المتقدم له؟ أم أن المسألة كلها فلوس في فلوس؟. * باحث في الدراسات الثقافية