هناك جرائم (شبه مستحيلة), بمعنى أن محاولة ارتكابها لا تدل فقط على انحراف السلوك وانحطاطه, بل تدل ايضا على غباء مستفحل يصعب علاجه. كمن يحاول سرقة فيل من حديقة حيوانات في وضح النهار. فانحراف السلوك وتفاهة النفس وانحطاطها في هذا المثال اجتمعت مع غباء العقل (وكل المجرمين اغبياء بطبيعة الحال). واجتماع وضاعة النفس وغباء التفكير يكون غالبا فيمن استمرأ الرذيلة واعتقد انه فوق القوانين, وهذا ما ينطبق على المصارف البريطانية بصفة عامة, وباركليز سيئ الذكر بصفة خاصة. وليس الغرض من المقال استعراض مسلسل الأحداث في عشر السنوات الماضية, والتي لا تدل الا على وقاحة الذهنية المصرفية البريطانية, أو الدخول في تفاصيل السلوك الإداري المنحط لمصرف باركليز أو لغيره من مصارف بريطانيا, او محاولة تحليل اسباب ضلوع مصارف الدولة البريطانية في تجارة المخدرات وتمويل الإرهاب وغيرها مما تشمئز منه كل نفس سوية. كما وليس الغرض محاولة فهم الأسباب التي تجعل من بريطانيا مصدر انطلاق كل شرارة كارثية في العالم, سواء على الصعيد المالي او السياسي. ولكن الغرض من المقال هنا محاولة فهم العقلية المصرفية البريطانية التي حاولت ارتكاب جريمة مالية (شبه مستحيلة). الحقيقة ان محاولة ارتكاب جريمة (شبه مستحيلة), دليل على نجاح منقطع النظير في ارتكاب الجرائم الممكنة والمتناولة في اليد. فسلوك المجرمين على مر التاريخ البشري يأخذ منحى تصاعديا مع ممارسة وامتهان الجرم والانحطاط والرذيلة, فلا يتوقف المجرم عن سلوكه الا حين يسقط في شر اعماله. ويبلغ السلوك المعتوه قمته حين يسعى من استمرأ الجريمة على ارتكاب ما لا يمكن تحقيقه عادة. المصارف البريطانية (وغيرها بطبيعة الحال, فليس للجريمة جنسية) قامت بكافة الجرائم المالية الممكنة, ابتداء بالتغطية على عمليات مالية لمنظمات ودول ارهابية, ومرورا بالتغطية على العمليات المالية لتجار المخدرات, والتلاعب والتأثير بأسعار الفائدة اللايبور, والى هذه اللحظة لم تنته سلسلة الفضائح ويبدو انها لن تنتهي في القريب العاجل. الا ان التحقيقات الدولية التي تم الكشف عنها مؤخرا, تشير الى محاولة عدد من المصارف الدولية (معظمها بريطانية الجنسية), التأثير في اسعار العملات. وصعوبة القيام بذلك تكمن في ضخامة حجم التعاملات اليومية للعملات (حوالي خمسة ترليونات دولار يوميا). ولكن يبدو ان الملل اصاب هذه المصارف من ارتكاب جرائم التغطية على تجار المخدرات والإرهاب, فقرروا القيام بعمل اكثر اثارة وحماسا, الا وهو التأثير في اسعار صرف العملات. ورغم دخول كافة المصارف الخاضعة للتحقيق في مفاوضات للتسوية مع السلطات التشريعية, الا ان القائمين على المصرف البريطاني المشبوه باركليز قرروا الانسحاب من مفاوضات التسوية لأسباب لم يفصح عنها القائمون على المصرف. شخصيا لا اعتقد ان قرار التوقف عن مفاوضات التسوية جاء من المصرف, بل اعتقد انه جاء من المحققين انفسهم والذين وجدوا ان الاستمرار في التحقيقات مع باركليز سيكشف المزيد من الجرائم المالية. لا يمكن للجريمة ان تستمر بلا نهاية كارثية مستحقة على المجرم. والحقيقة ان المجرم هنا استمرأ الجريمة حتى توهم ان بإمكانه القيام بالمستحيل. كما ان الغريب ان السلطات المالية البريطانية ما زالت تأخذ موقفا لا يمكن فهمه الا على انه حماية لمصارفها التي ضربت بعرض الحائط الأمن والسلم الدوليين. وكأن ما قامت به هذه المصارف كان بإيعاز مباشر من ساسة هذه الدولة, وبضمانة منهم على الحماية من الملاحقات القانونية لمجالس الإدارات والتنفيذيين. فهل من قبيل الصدف ان يتم تمويل دول ومنظمات ارهابية من مصارف بريطانيا, وهل من قبيل الصدف ان رئيس مجلس ادارة اتش اس بي سي والذي في عهده تورط البنك في التغطية على تجار المخدرات في المكسيك, يصبح وزيرا للدولة لشؤون التجارة الخارجية. وغيرها الكثير من علامات الاستفهام لا يسع المجال لسردها. الا ان السؤال الأهم في رأيي لماذا لا تحذو دول العالم حذو الولاياتالمتحدة في فرض الغرامات المغلظة او حتى سحب الرخص, فهل المصارف البريطانية اقوى من الدول التي تعمل بها؟ * متخصص مالي ومصرفي