بمَ أهانها حتى سُمع دوي صوتها في أقصى الشمال؟.. أهانها ظهراً، وفي الليل كان يبكي بكاء الصغار.. يصرخ في نفسه.. يوبخها: ( لِمَ فعل ذلك؟ ).. لقد عاد من عمله مزجوراً للمرة الألف.. بل مطروداً كالزفير بعد خمس وثلاثين عاماً من الخدمة.. يسحب أذيال الهزيمة والخسران بأعضاء مزلزلة خائرة، وكأن الطيور المهاجرة تحلق فوق رأسه، تبكي جفاف الماء من أراضيها ثم تصيح: ( إن تعد قطرات المطر أسهل من أن تلتقطها ).. كل الأمور كانت تسير بما لا تشتهي سفنه.. واقفا.. حيران.. يمسح بعض دموعه الحارة بمنديل أبيض قد تبلل معظمه.. غدا يفتش جيوبه جيباً جيباً.. يبحث عن مسبحته.. إنه يريد تحريك أصابع الألم.. يفرك الحسرة بينها.. يعد حبيبات الندم.. فلم يجدها.. تأفف بعبوس.. دلف إلى غرفته يجوبها بعد أن أضاء مصباحها الأبيض.. بحث في درج السرير وفوقه.. في خزانة الملابس وبعض الملابس.. هنا.. هناك.. لم يجدها أيضاً.. ضرب راحاً براح.. شعر أن جو الغرفة موحش كئيب.. أحس وكأن حجراً قد جثم على صدره.. شهق شهقة تبدد السكون فيها.. تذكر مسبحته أين؟.. ( أوووه.. إنها وقعت أمام الرئيس في العمل حين الارتعاش والخوف والرجاء).. ضحك ساخراً من ذاته.. أنصت قليلاً يفكر.. يعد اللحظات على أصابع كفيه.. همس لنفسه: ( تُرى ما العمل؟.. كيف لي أن أطفئ جذوة نار قد أشعلتُها بيدي هاتين، كي لا أخسرها هي أيضاً؟.. كانت تبكي على أريكة في غرفة أخرى من البيت قد أوصدت الباب عليها، والضوء الخافت لا يبدي كثيراً من سيماء الحزن على محياها.. تشهق شهقات متتابعة.. تعصر دموع الذل والهوان علها تخفف من وقع الألم.. ذهب بها الأمر مذاهب أراقت كأس الصبر منها.. انكمشت ملامح وجهها.. أغمضت عينيها.. وضعت كفيها على أذنيها.. صرخت: ( لن أتركه يفعلها مرة أخرى كما فعلها من قبل..). كان يقف بمحاذاة باب الغرفة الموجودة فيها.. يسمع صوت بكائها بطريقة واهنة وتبعاً لها تتقلص ملامح وجهه القمحي ذي التجاعيد المتراكمة.. والذقن الأبيض المتآكل.. توجّه صوب باب غرفتها بقرار أخير ملتزماً الهدوء التام.. حابساً اضطراباته.. قابضاً على ناصية فؤاده الطاعن في سنه الخمسين.. طرق الباب كخفقان قلب مطمئن.. وباختناق وضيق، وصوت متهدج.. قال: ( اعذريني.. وابقي معي.. فلن أعود لمثل ذلك أبداً.. ).. لم تجبه.. لقد أدمنت، أو اعتادت ذلك منه طوال ثلاثين عاماً.. آن لها التحرر من قيود الإدمان.. ومن وراء الباب.. دوّت صرختها كصرخة أسد وراء قضبان حديدية صكت سمعه : ( لا، لن أقبل الاعتذار من أحمق! ).. جاء الصوت إليه كسهم نبت في قلبه الممزق، وكصفعة دامية على محياه المنهار الشاحب.. أشعره بخسارتها.. فهوى أرضاً بجانب الباب الموصد.. كتب بدمه أحرف اعتذاره وفراقه عليها.. كانت لحظة رحيله إلى الآخرة.. فقد خسر الحياة الأخرى !!..