هل قرأ رجال الأعمال الأحياء قصة "أماوية" زوجة حاتم الطائي تلك الزوجة التي كانت تلومه على كرمه وناره التي لم تنطفئ؟ فعتابها في سخائه دائم، وضجرها من عطائه قائم لكثرة الناس والطواف على بيته فكان جواب أخلاقه، ومعدن ذاته، وسباق جوده يرد عليها قائلا: أماوية إن المال غادٍ ورائحٌ ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذكرُ أماوية إني لا أقول لسائلٍ إذا جاء يوما حّل في ما لنا نزرُ أماوية ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدرُ فعصر الجاهلية الذي يمدح فيه العربي على كرمه وطيب معدنه، يذكره ويسطره الإسلام بالفخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لسفانة بنت حاتم الطائي بعد ما أطلقها من الأسر: لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، ولكن يبقى أن أستاذ الخلق والكرم هو من يعطي عطاء من لا يخشى الفقر قد عرفت حكاية الكرم منه، وهذه الحكاية وتاريخها عن العرب طويل يبقى من نثارها قولهم: "إذا كان الإنسان كريما جوادا نسي الناس عيوبه"، وقولهم "كل ينفق مما عنده". وحينما خلّد التاريخ بذاكرته أجواد العرب ككعب بن أمامة، وحاتم طيء، وهرم بن سنان لم يكن ذاك عبثا بل ليضع لنا بصمة مهمة.... أن المرء إن لم يكن له إلا المال ليخلد ذكره فليكن هو رسوله بين الناس. لذا فقصة الكرم الصامت والخير والعطاء والندى المتدفق في عصرنا مشهود عرف به كثير من رجال مملكتنا الغالية ولله الحمد تسافر معه كل نسمة عطر وفي كل سماء وقطر، فكثير هم الذين يرحلون وترحل معهم أسماؤهم، وتطوى صفحة الأيام سريعا آجالهم التي لم يكتب لها حسن الأثر، وفي المقابل تبقى ذاكرة المملكة محتضنة لصفوة الرجال الذين حينما يرحلون يبقى رصيد خيرهم وبرهم وإنجازاتهم نابضاً على لسان الناس ومصافحاً ليد الحياة المفعم بحب الخير والوطن والناس. فكم من العطاءات الإنسانية، والإنجازات المادية المثمرة، والمبادرات الإيجابية التي هي شعلة تضيء سماء النفس، وينبوع غدق في شريان العطاء؟ ورحم الله ابن تميم حين قال: وما كان إلا مال من قّل ماله ذخرا لمن أمسى وليس له ذخر ولقد فقدت الأحساء قبل أسابيع رجل الأعمال "عبدالعزيز الملحم" صاحب الخلق والمطر الصامت الذي أسبغ مطر خلقه وكرمه وأدبه على البعيد والقريب، رجل غاب ولم يمت، كحال كثيرين من رجال هذه المملكة الأخيار ممن عرفوا بالإنسانية لا الأنانية، وبالبذل لا بالبخل، يعرفهم من وردهم، ولكني أتوقع أن رجل الأعمال في المملكة كالوردة ذات العبق المسافر ليس هناك من رابطة أو جمعية تجمعه في روض وفريق مشترك يكون نفعه وطيبه على الوطن وتنميته ودعم شبابه، كدعم مشاريع الإسكان مثلا، أو إنشاء مستشفى خيري، أو عمل مصنع يوظف مخرجات التعليم ويرفع البطالة، ولو تبنوا إقامة شركة أمنية أهلية كوضع كاميرات على المساكن والقرى والأحياء لكان خطوة مباركة، والأمل دوما معقود ومنتظر من أمراء المناطق ووزارة التجارة والغرف التجارية أن تسهل وتذلل وتدعم فكرة الفريق الواحد لعمل مشاريع مشتركة كبرى في المملكة، تنقذ وترفع مدنا تعد في تعبير علماء الاجتماع مدنا "طاردة للسكان"، فالخوف أن تكون مدناً قبل رجال يموتون ويموت عطرهم سريعا، فالموت لا يسرق عطر زهر الروض، ولا يدفن نسيم بِر مجتمع، وصوت الفناء حق ولكن حرف الوجود يبقى مغردا ولن ينقطع عمل مسلم سطر تاريخ الجمال لديه: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له. * الأستاذ المساعد بجامعة الملك فيصل