عندما كنت مشغولا بترتيب أرشيف مكتبتي شدني مقال قديم تحت عنوان (بين الشاورما والهامبورغر يكمن سر العصر) والتي بدأها كاتب المقال بمقارنات بين الأطعمة والاختلاف النسبي في التذوق، ولكنه طرح سؤالا ربما يكون ملفتا هو: لماذا انتشر الهامبورغر والهوت دوغ والبيتزا دون سواها من الأطعمة بالرغم من أن أصول هذه الأطعمة غير أمريكية ولم تشتهر عندما كانت في موطنها الأصلي. وعرج في مقارناته إلى الملبس فقارن الجينز والشيرت بالسروال الشامي والألبسة الشرقية المحترمة أو الزى الفرنسي الأنيق أو الزى البريطاني والإيطالي المفرطة في التقاليد المعقدة وعبر كاتبه بدون قناعة عن المبررات المنطقية لهذا الانتشار بأن السبب الهيمنة الإعلامية والسياسية والاقتصادية والعسكرية مؤكدا مقولة ابن خلدون «إن المغلوب مولع بتقليد الغالب». ولعدم قناعته بهذه الأسباب جردها من قواعدها الثابتة وتحدث عن الماضي وقال «إن العقل الأمريكي المؤسس هو عقل منطلق على عكس العقل الأوروبي الذي أصبح مقيدا أكثر فأكثر بقيود الماضي». وما يجب أن يتذكره الكاتب أن هذا الماضي ما هو إلا فعل تراكمي يطلق عليه مسمى حضارة وهذه الحضارة الإسلامية ما زالت راسخة بجذورها عبر العصور مهما مرت عليها من تقلبات. اعترتها فترات وهن وضعف ولكنها لم تمت. وما أنت فيه اليوم من تقدم وتكنولوجيا ما هو إلا ارث التقطه من استطاع تفعيله أما عن تخاذل أهل الحضارات عن هذه المقومات التي يملكونها فلا يكون كافيا للمتحضرين الادعاء بامتلاكها. مهما استخدموا من عبارات التبرير. أما عن قوله عن جماعات الهجرة والانصهار في المجتمع الجديد فهؤلاء يمارسون عمليات تهجين بين الحضارات والآخرون يمارسون عملية استنساخ لحضاراتهم والفرق أن عمليات التهجين كسبت الجولة من المستنسخين ولكنها ليست نهاية المطاف حيث إن الحضارات ما زالت متجذرة حتى النخاع في ارثها الحضاري ولا تستطيع أي مهارة تهجينية سلخها من جلدتها الأصلية. نعم إن التهجين ينتج عنه محصول نظري وجميل حجما وشكلا ولكنه فاقد اللون والطعم ناقص في فيتاميناته وبالرغم من كل ذلك نجد في أمريكا أن الجالية الصينية لم تنصهر في المجتمع الأمريكي وأصبحت بارزة للعيان وتمارس كل ثقافاتها دون تأمرك وكذلك المجموعات الأفريقية لها حيز لا ينسى.. تمتهن فعل الأجداد، والمجموعة الهندية لم تستطع أن تهمل طقوسها أو تغفل عن عروقها ولا يقف الحال عند القارة الآسيوية أو الأفريقية بل هناك تحزبات عرقية تنحدر من أوروبا. كل هذه التكوينات لم يصهرها الاندماج بالرغم من مرور قرن ونصف القرن، لا والأمر من كل ذلك أن هذا التمحور يشكل منعطفا خطيرا على البناء الهيكلي لأمريكا بل يهدده بالانهيار كما حدث في المجتمع السوفيتي عندما تضعضعت قدراته وقلت إمكانياته. أما عن الأضواء المبهرة التي تحاول أمريكا أن تسلطها بإبرازها قدرات وإمكانيات خرافية يعجز عنها الآخرون كل ذلك أصبح لها سهلا عندما انفردت كقوة عظمى ذات القطب الواحد ومحاولاتها جادة في امركة كل مناحي الحياة العسكرية والاقتصادية والثقافية والفنية وسخرت لها كل الامكانيات للانتشار قي الكرة الارضية واصبحت بعثاتها الدبلوماسية محطات لتوزيع المهام ودراسة المحيط الدائر حولها لتقيس معايير التغيير وتتخذ التدابير المناسبة لكل ثغرة واجب تغطيتها دون تركها كي لا تتوسع بؤرتها وتخرج عن المسار المخطط له، وهذا ديدن كل الدول الاستعمارية المهيمنة على العالم الثالث سابقا وتريد بعزيمة جادة المحافظة على هذه المكتسبات دون ان ينازعهم عليها من يفكر في الانفكاك نعم إنهم يملكون التقدم ولكنهم لا يملكون الحضارة. وهنا يجب التذكير بان أي مجتمع يرتكز على التهجين فقط بدون حضارة تسنده يفقد خواص التكوين والبقاء. * باحث وكاتب