تقوم كثير من دراسات الاستشراق الكلاسيكي على وصف العرب بأنهم جوهر واحد، وهذا يعني أننا العرب مهما حاولنا أن نتغير فنحن ندور في ذات الدائرة، نحن اليوم كما كنا قبل ألف سنة، لذلك لا يوجد تطور يذكر في الفكر العربي، ولو نظرت إلى علوم العرب المسلمين ستجدها تظهر في لحظة زمنية ما وتبقى تدور في الأسئلة والأطروحات ذاتها. هذا لا يعني أننا كسالى، فنحن نعمل بجد واجتهاد تماما كعمال المصانع الذين يملكون قابلية للتدريب لكنهم لا يقدرون على إدارة مصنعهم. لذلك على الرجل الأبيض أن يقوم بواجبه الحضاري تجاه الآخرين- الذين هم نحن- من أجل قيادتهم، وهو ما برر الاستعمار لفترة طويلة. لا أستطيع الجزم بأن الاستشراق مازال يعمل بالروح القديمة ذاتها، بعد أن واجه ضعفا شديدا في النصف الثاني من القرن العشرين، خصوصا وأن كثيرا من الباحثين الغربيين المهتمين بالشرق اليوم لا تروقهم هذه التسمية (الاستشراق)، لكن على الأقل كانت هذه سمته الرئيسة في مرحلته الكلاسيكية. إدوارد سعيد كان علامة فارقة في دراسة الاستشراق، حيث قلب الطاولة على هذا الاتجاه الذي يعنى بدراسة الشرق، وأثبت في كتابه (الاستشراق) أنه اتجاه مستعص على التطور، فهو يحمل معوقاته في ذاته، وحتى حين تتوفر لديه المعطيات من أجل إحداث تغيير جذري في الأفكار تجده يلتف عليها من أجل إثبات تحيزاته التي قام عليها. باحث معاصر آخر يحدث جدلا كبيرا في وسط الدراسات الغربية، وهو المفكر وائل حلاق، من خلال ثلاثيته التي تحمل العناوين: (تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام)، (السلطة المذهبية)، (نشأة الفقه الإسلامي وتطوره)، يتوسّل حلاق بالأدوات ذاتها التي توسّل بها إدوارد سعيد، فهو يمضي بأركيولوجية ميشيل فوكو بعد أن يضيف عليها رؤيته، ليبحث عن تشكل الفقه الإسلامي في تاريخنا، عن تأثير النصوص في بعضها واشتغالها في المجتمع، ويحاول الإمساك بكيفية تشكّل الحقيقة الدينية عبر التاريخ. نتائج وملاحظات مهمة تستحق الإشادة تلك التي يثبتها وائل حلاق في دراسته، فهو يثبت أن نص الإمام الشافعي (الرسالة) لم يكن تأسيسيا كما هو معروف لدينا، فلم يخرج النص ويُبنى عليه فيما بعد، بل كان نصّا ضمن نصوص عديدة في محاولة استكشاف أصول الفقه، ومشاركة في جدل طويل استمر حتى القرن الرابع الهجري، وحين حسمت الأمور لصالح هذا الاتجاه الذي كان يمثله الشافعي قديما، تمت استعادة نصّه كنصّ تأسيسي، لا يهم أن ترى هذه النتيجة إيجابية أو سلبية فما يهم هنا هو أن تكتشف كيف تشكلت الحقيقة تاريخيا. يتتبع حلاق في كتابه (السلطة المذهبية) ظهور وتشكل المذاهب الفقهية الأربعة، ويثبت أيضا أن مؤسسي المذاهب الأربعة لم يكونوا بهذا الوصف في حياتهم، فقد كان الفقه يتوارث عبر الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وكان الأئمة الأربعة جزءا من هذا التوارث. صحيح أنهم كانوا على قدر كبير من العلم والقبول والتأثير، لكنهم أيضا لم يتجهوا عن قصد لإنشاء مذهب خاص له كيانه المستقل، ولم يؤصلوا أصولا ولم يضعوا قواعد، بل كانوا كمن سبقهم، ينقلون الرأي عن السابقين، ويضيفون ما يمكن للفقيه إضافته عبر اجتهاده. وفيما بعد قام الأتباع باعتمادهم كمؤسسين لمذهب مستقل، وتم جمع أقوالهم ومحاولة تقعيد أصولٍ لهم، وأيضا التخريج على المذهب والتفريع عليه، وتم نسيان مديونية هؤلاء الأئمة لمن قبلهم، وتم اعتمادهم كنقطة فارقة في التاريخ عن وعي منهم. يبدي حلاق إعجابه الشديد بظهور وتشكل المذاهب الفقهية الإسلامية، فهو يرى أنها سارت في طريقها الطبيعي بكل براعة وقوة وتماسك، وحفظت نفسها من السلطة السياسية، حيث كانت تنتمي للمجتمع بدلا من انتمائها للدولة، وهي بالتالي تمثل الفردية بمقابل الدولة، ويرى أن هذا التنوع الشديد في الآراء لم يكن ليحدث لو أن الأمر تم تحت سلطة الدولة، ولو أنها كانت كذلك لاتجهت إلى حسم الآراء، بدلا من هذه الكثافة في الأقوال الفقهية، وهو ما يجعل المسلم أمام خيارات عديدة جدا من الفعل الفقهي، بدلا من حمله على اتجاه واحد. المدارس الفقهية تقوم على التقليد، وهنا يبدو حلاق معجبا بالتقليد وهو يراه في جانبه العلمي الفلسفي، ففي الطب والفيزياء والرياضيات والفلسفة وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم، يبدأ الدارس بالتعلم والأخذ عن السابقين، يتعلم ممارسة العلم من خلال التراكم العلمي الطويل في مجاله، وبعدها يحاول جاهدا أن يقدّم شيئا ولو قليلا في هذا العلم، ومن الملاحظ أن ما يقدمه العلماء من إبداع جديد يُعدّ جزءا يسيرا من التقليد العلمي الذي يمارسونه في حياتهم العلمية، وبهذا الوصف يقرأ حلاق التقليد الفقهي، فهو يرى أن المدارس الفقهية كانت لها تقاليدها وقواعدها الداخلية، وعلى الدارس أن يربّي عقله ضمن هذا الكيان الفقهي (المذهب)، وأن يمارس التقليد ثم يتجه نحو الجدل والحجاج وأن يحاول إضافة الجديد. ربما من أهم النتائج التي توصل لها حلاق أن الفقه الإسلامي لم يكن جامدا، ولم يكن يكرر نفسه، بل إن مقولة (تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان) كان يتمّ تطبيقها عن وعي من قبل الفقهاء، ومن أجل ذلك تمت مناقشات طويلة حول العرف الخاص والعام وأثره في الأحكام، بل حاول فقهاء كابن عابدين أن يرفعها إلى مستوى المصادر الإسلامية، كالقياس والإجماع. * أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد