تبنى النواب البريطانيون، قبل أيام، بغالبية 274 صوتاً مقابل رفض 12، مذكرة تدعو الحكومة البريطانية إلى "الاعتراف بدولة فلسطين إلى جانب إسرائيل" ك"مساهمة في تأمين حل تفاوضي يكرس قيام دولتين" في المنطقة، في خطوة صغيرة في تصحيح مأساة تاريخية تسببت فيها الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في أوائل القرن الماضي، عندما شردت شعباً بأكمله من أرضه لزرع يهود جاءت بهم من الجهات الأربع للكرة الأرضية إلى أرض فلسطين. وترجع البدايات الأولى لفكرة إنشاء وطن خاص باليهود، يجمع شتاتهم ويكون حارساً على مصالح دول (أوروبا) الاستعمارية في الشرق إلى ما قبل الحملة الفرنسية على مصر، وتجلى ذلك بوضوح في خطاب "نابليون" الذي وجهه إلى يهود الشرق؛ ليكونوا عونًا له في هذه البلاد. وقد وجدت هذه الدعوة صدى لها لدى كثير من اليهود، فقد كتب المفكر اليهودي (موسى هس) يقول: إن "فرنسا" لا تتمنى أكثر من أن ترى الطريق إلى "الهند" و"الصين" وقد سكنها شعب على أهبة الاستعداد لأن يتبعها حتى الموت فهل هناك أصلح من الشعب اليهودي لهذا الغرض؟! ومع نهايات القرن التاسع عشر انتقلت فكرة الصهيونية التي تزعمها "ثيودور هرتزل" مؤسس الحركة الصهيونية - من مرحلة التنظير إلى التنفيذ، بعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل عام (1314ه : 1897م)، بالسعي الصهيوني الدائب للحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن قومي يهودي. واتجه التفكير بداية لمنح اليهود وطنًا في شمال أفريقيا، ثم منطقة العريش، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل، فاتجه تفكير اليهود إلى "فلسطين"، وسعوا للحصول على وعد من " تركيا" - صاحبة السيادة على "فلسطين" - لإنشاء وطن لليهود فيها، وسعى "هرتزل" إلى مقابلة السلطان "عبد الحميد"، وحاول رشوته بعشرين مليون ليرة تركية، مقابل الحصول على فلسطين، ولكن السلطان رفض، وقال: "لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدة من البلاد؛ لأنها ليست لي، بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بدمائهم، وفضلوا أن يموتوا في ساحة القتال، إن الإمبراطورية ليست لي، بل للشعب التركي، ولا أستطيع أن أعطي أحدًا أي جزء منها، ليحتفظ اليهود ببلايينهم. والرفض العثماني هذا لم يثنِ "هرتزل" عن المضي في العمل على تحقيق مشروعه، وبدأ اليهود ينشرون فكرتهم على نطاق واسع في أوروبا، ووجدت الفكرة صدى وتجاوبًا لها في الغرب لدى عدد من الساسة والزعماء، وكان "آرثر بلفور" - وزير الخارجية البريطاني - أكثر المتحمسين لها، وهو المعروف بتأثره بالفكر الصهيوني، وتعاطفه الشديد مع الصهيونيين. وهنا بدأ البريطانيون يضعون الخطوط الرئيسية لفكرة الوطن اليهودي، وتركزت في البداية على مفهوم إيجاد ملجأ للمضطهدين من اليهود المهاجرين، ولكن الجانب الصهيوني عارض هذا الاتجاه، واستقر الطرفان - في النهاية - على مشروع الوطن القومي، وقوبلت هذه الفكرة بمعارضة شديدة من بين اليهود أنفسهم، خاصة اليهود الليبراليين الذين استطاعوا أن يندمجوا في المجتمعات التي عاشوا فيها، ورأوا في هذه الفكرة دليلاً قد يتخذه أعداء السامية على غربة اليهودي، وعدم قدرته على الاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، وعدم انتمائه إلى موطن إقامته. وأقدمت "بريطانيا" على تلك الخطوة الخطيرة، فأصدرت وعد بلفور، ونشرته الصحف البريطانية صباح (23 من محرم 1336ه : 8 من نوفمبر 1917م) وكان نصه: عزيزي اللورد "روتشلد" يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرّته: "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهومًا بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علمًا بهذا التصريح. المخلص آرثر بلفور وفور إعلان هذا الوعد سارعت دول أوروبا، وعلى رأسها "فرنسا" و"إيطاليا" و"أمريكا" الى تأييده، بينما كان في مناطق العالم العربي وقع الصاعقة، واختلفت ردود أفعال العرب عليه بين الدهشة والاستنكار والغضب. ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، ودخول الجيوش البريطانية بقيادة اللورد "اللنبي" إلى القدس، ترجّل القائد الإنجليزي وقال كلمته الشهيرة: "اليوم انتهت الحروب الصليبية". وبعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام دخل الجنرال الفرنسي "غورو" دمشق في عام (1338ه: 1920م) ووضع قدمه على قبر "صلاح الدين الأيوبي" وهو يقول في تحدٍّ وتشفٍّ لا يخلو من حقد دفين: "ها نحن قد عدنا ثانية يا صلاح الدين". وفي إبريل 1920 وافق "المجلس الأعلى لقوات الحلفاء" على أن يعهد إلى "بريطانيا" بالانتداب على "فلسطين"، وأن يوضع "وعد بلفور" موضع التنفيذ. ثم ما يلبث مجلس "عصبة الأممالمتحدة" أن وافق على مشروع الانتداب في (24 من يوليو 1923م)، ثم دخل مرحلة التطبيق الرسمي في ( 29 من سبتمبر 1923). و"وعد بلفور" باطل قانونياً وتاريخياً بحسب الكثير من السياسيين والمؤرخين، فلم تكن فلسطين، عند صدور الوعد جزءاً من الممتلكات البريطانية، حتى تتصرف فيها كما تشاء، وإنما كانت جزءاً من الدولة العثمانية، وهي وحدها صاحبة الحق في ذلك، كما أن "وعد بلفور" صدر من جانب واحد - وهو بريطانيا - ولم تشترك فيه الحكومة العثمانية، بالإضافة إلى أن هذا الوعد يتعارض مع البيان الرسمي الذي أعلنته "بريطانيا" في عام (1336ه : 1918م)، أي بعد صدور "وعد بلفور" - والذي نص على "أن حكم هذه البلاد يجب أن يتم حسب مشيئة ورغبة سكانها، ولن تتحول بريطانيا عن هذه السياسة". كما يتعارض هذا الوعد مع مبدأ حق تقرير المصير الذي أعلنه الحلفاء، وأكدته "بريطانيا" أكثر من مرة. صحيح أن البرلمان البريطاني وافق بأغلبية ساحقة غير متوقعة، ولكن التصويت كان كبيرا في مضمونه وتوقيته، وإن لم يؤد إلى أي تغيير على الفور ولا يعدو كونه إجراء رمزياً. وبحسب النائب المحافظ الان دنكان وزير الدولة السابق لشؤون التنمية الدولية، فإن "بريطانيا لديها مسؤولية تاريخية ومعنوية" بالاعتراف بدولة فلسطين، في إشارة إلى الانتداب البريطاني الذي حكم فلسطين وبلاد ما بين النهرين مطلع القرن الماضي. وأبلغ شبكة سكاي نيوز "لقد مضى وقت طويل وفلسطين محتلة وسكانها يعيشون حياة بائسة والإسرائيليون يواصلون شيئاً فشيئاً البناء على أراض ليست ملكاً لهم. لقد آن الوقت ليعترف العالم بدولة فلسطين على غرار 134 دولة أمام الأممالمتحدة".