هناك من لا يرى أن ما يحدث من تراجع في أسعار النفط هو رضوخ لقوى العرض والطلب، بل يراه مخططا لإرهاق روسيا وإيران. ولن أدخل في جدل، لكن أقول إن حقائق السوق تقول إن خفض السعر سيضر بالجميع في المدى القصير، بما في ذلك الدول المنتجة الرئيسية بما فيها المملكة والولاياتالمتحدة، بل إن الضرر الأكبر سيصيب منتجي النفط الصخري الأمريكي، فكثير منهم بدأ في الإنتاج مؤخراً فلم يستغرق بعد التكاليف الرأسمالية المتكبدة، إضافة للارتفاع النسبي لتكلفة الإنتاج، ولذا فمن المبرر القول إنهم عرضة ليكونوا أول من يخرج من السوق في حال هبوط الأسعار لما دون السبعين دولاراً. فهل ستضحي أمريكا بفرحتها الكبرى بأن ثمار سياسة الطاقة بدأت تؤتي أُكلها؟ وهل تضحي كذلك بمنتجي النفط الصخري الأمريكان وتلقي بهم في أتون الخسائر والإفلاس؟ والحديث أن تناحراً سياسياً يأخذ مداه ليخيم على سوق النفط العالمية ليس جديداً، كما أن طرحه لا يقتصر على معلقين محليين، بل تناولته قنوات فضائية وصحف ووكالات في تقاريرها الصحفية وفي مقالات للرأي. ومع ذلك فالخلل في التحليل التآمري (أو السياسي إن شئتم) انه ينشغل باللحظة القائمة، بمعنى أنه يسعى لتخمين تفسير لما يحدث حالياً دون أن ينظر في المآلات؛ فالسعي لخفض أسعار النفط من أجل الإضرار بدول منتجة أخرى هو تفكير نابع من مدرسة "كماكازي"، إذ ان الجميع سيخسر دونما استثناء. وقد يفوت بعض متبني هذا التحليل أن لدى روسيا احتياطيات هائلة تقارب 500 مليار دولار، وأن وضع ميزانيتها متوازن إلى الحد البعيد، وأن انخفاض إيراداتها من النفط قد يعني عجزاً لكنه ضئيل حتى لو قارنّاه بما على لبنان من ديون! كذلك فاتهم أن قدرة روسيا على تحمل انخفاض سعر الخام تفوق قدرة دول كثيرة، وهذا هو مأخذ منطقي على التحليل التآمري لما يحدث في سوق النفط. ومن زاوية أخرى، ان "أوبك" تعيش معضلة، وهي أن الأسعار تنخفض وسط: ضعف الاقتصاد العالمي، وتنامي انتاج النفط الصخري، ووجود فائض في السوق يقدر بنحو 1.5 مليون برميل. فالإصرار على الدفاع عن السعر فوق المئة دولار، سيعني أن على أوبك خفض انتاجها دون أي ضمانات بارتفاع السعر. والمخاطر تكمن في أن تلك الخطوة قد تؤدي لتخلي أوبك عن زبائنها، باعتبار أن أولئك الزبائن سيلجؤون للموردين الآخرين المنافسين (أي من خارج أوبك)! وهكذا سيكون المستفيد الخالص من خفض أوبك لإنتاجها هم المنتجون من خارج أوبك، ولذا فهذا خيار غير مجدٍ. أما الأسلوب البديل فهو أسلوب الدفاع عن الزبائن (أو الحفاظ على الحصة من السوق) من خلال التطمين بتوفير الإمدادات لهم ومنحهم تخفيضات وفقاً للتغيرات السائدة في الأسعار، وبعد الحفاظ على الزبائن، فإن استمر انخفاض السعر نتيجة لزيادة الإنتاج فسيعني ذلك أن المنتج الأقل تنافسيةً هو من سيخرج أولاً، ودول أوبك قاطبةً وروسيا ليست في تلك الفئة، بل أول من سيخرج هم المنتجون الجدد والمنتج العالي التكلفة. والهدف الأنيق -إن جاز التعبير- في سياسة خفض السعر هو أن الحفاظ على سعر "ملائم" للنفط ليس مهمة "أوبك"، بل أمر يستوجب "تعاون" جميع المنتجين الرئيسيين، وفي مقدمتهم الولاياتالمتحدةوروسيا. لكن أصحاب التحليل التآمري لم يلتفتوا لهذا الهدف الأنيق، إذ يبدو أن أي شيء فيما عدا خفض انتاج أوبك هو مؤامرة! أعود لأقول: إن التحليل الأقرب إلى الأرض هو العرض والطلب، فميزان القوى الحالي لسوق النفط يرتكز إلى توازن العرض والطلب أكثر من أي تأثير آخر، بما في ذلك التأثيرات الجيوسياسية والتعارضات والخلافات السياسية، والأسباب: (1) أن كل الفرقاء السياسيين ينتجون نفطاً وإن تفاوتت كمياته؛ صراعهم على سعره سيدفعه للأسفل لا محالة، وتنسيقهم -إن حَدث- سيجعل السعر يتماسك. (2) أن "أوبك" لا تمسك الأوراق منفردةً، فحصتها من السوق نحو الثلث، وهي إلى انحسار باعتراف أوبك نفسها، وفي المقابل فإنتاج الولاياتالمتحدة في صعود، فسيرتفع في العام 2015 بنحو 900 ألف برميل ليصل إلى 13.12 مليون برميل يومياً، أي ما يوازي 44 بالمائة من انتاج أوبك المتوقع للعام ذاته. (2015) وبالنتيجة، فلا يوجد حالياً من يقوى على امساك السوق النفطية "من قرنيها" كما قد يتهيأ للبعض، فدور "بيضة القبان" قد انتهى وأصبح من قصص الماضي، والكلمة النهائية هي للسوق، فالمنافسة فيها تجعلها عصية على كل طوق. * متخصص في المعلوماتية والإنتاج