فى كتابه الأخير النظام الدولى World Order أشار وزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر، إلى أن الشرق الأوسط يعيش نزاعا يشبه النزاعات التى شهدتها أوروبا فى القرن التاسع عشر ممثلة فى الحروب الدينية، حيث يرى أنه فى ظل ما تُعانيه المنطقة من انهيار للدول تحولت أراضى تلك الدول إلى قاعدة للإرهاب وتهريب السلاح بشكل قد ينتهى إلى تفكك بعض دول المنطقة، وهو أمر من شأنه أن يقود إلى تفكك النظام الإقليمى والدولى. مضيفا ضرورة التعامل مع تلك المخاطر كتهديد للاستقرار العالمى وليس تهديدا إقليميا فحسب وهو ما يتطلب ضرورة تعاون القوى الدولية للتصدى لها. كلام هنرى كيسنجر ليس بالجديد لكن المهم هو طرحه من قبل شخصية مهمة ليس بعيدا عن المنطقة وتفاعلاتها، خاصة أن بلاده كان لها دور رئيسى فيما تعانيه المنطقة الآن. ووفقا للمفكر المصرى الكبير محمد حسنين هيكل، فإن المرحلة الأخيرة التى تعيشها المنطقة شهدت تحرك كل وحوش التاريخ، مشيرا إلى أننا كنا فى الماضى نتحدث عن ثلاثة وحوش هى: "الوباء، المجاعة، والفقر" إلا أننا أضفنا إليها المذهبية والطائفية والقوميات، بينما فكرة الأوطان فى الأساس وُجدت لكى يصبح الوطن هو الغطاء للتناقضات وأن يشترك الجميع فى وطن واحد، مؤكدا على أن الفوضى هى كلمة السر فى تشكيل ملامح الخريطة الجديدة للمنطقة فى الوقت الراهن والفوضى هنا ليست حالة مستمرة لكنها ستلعب دورا فى رسم البدايات. أما كيف سيكون شكل تلك الخريطة فى النهاية، فالأمر الواضح هو أن مسار الأحداث سوف يلعب دورا بارزا فى رسم الخريطة الجديدة للمنطقة والطرف المهيمن سيكون له دوره المؤثر فى تحريك الأحداث وفقا لمصالحه بعيدا عن المصالح الوطنية. فالواقع الراهن يُشير إلى أن خريطة العالم العربى ضاعت فيها الأوطان ليحل محلها الطائفة والمذهب والعرق. ويؤكد ذلك ما تعانيه كل من سورياوالعراق من تمزق لصالح فئات ومصالح ضيقة بعيدا عن مصالح الوطن ككل، وما تعانيه ليبيا من حرب أهلية، حتى أن صنعاء عاصمة اليمن الذى كان يوما ما يُسمى باليمن السعيد وقعت الآن فى أيدى الحوثيين دون مقاومة ومن قبل تقسيم السودان إلى دولتين، فما يجرى فى المنطقة حاليا من تفاعلات هو إعادة رسم للخريطة القديمة للمنطقة، والمشكلة الأكبر أن من الفاعل الرئيسى فى رسم تلك الخريطة هو طرف خارجى. حتى أن التحولات التى شهدتها المنطقة تعثرت فى ظل هشاشة وضع الدولة والتحديات التى تواجهها فى الداخل والخارج خاصة أن الدولة بمؤسساتها كانت مقاومة للتغيير. فالدولة ترتبط فى أذهان الجميع بالأمن والاستقرار وربما البقاء، وعندما أصبحت الدولة فى مواجهة الديمقراطية فضل البعض الدولة للخروج من حالة الفوضى خاصة فى ظل الواقع الإقليمى شديد التدهور حتى أن الدولة اكتسبت درجة من القداسة فى مواجهة المجهول، فعندما تفقد الدولة السيطرة بفتح ذلك المجال للقوى الموازية لفرض سيطرتها ومد سلطانها على الدولة المنهارة. فلو نظرنا إلى الوضع فى ليبيا، فرغم أن الأوضاع في ليبيا لم تشهد استقراراً منذ اندلاع الثورة الليبية في 17 فبراير 2011, إلا أن التدهور الأخير في الأوضاع جاء مع إعلان اللواء المتقاعد «خليفة حفتر» ثالث محاولة إنقلابية له حيث نزل يوم الجمعة 16 مايو 2014 إلى أرض مدينة بنغازي، ليقود هجوما على أحدى الكتائب التابعة لرئاسة الأركان في إطار عملية أطلق عليها اسم «كرامة ليبيا», هذا وقد بدأ الصراع فى ليبيا يأخذ شكلا مختلفا مع بدء عملية "كرامة ليبيا" وقد بدأت العملية فى مواجهة القوى الإسلامية المتشددة فى البداية ثم امتدت إلى المؤتمر العام الذى يسيطر عليه الإسلاميون. الأمر الذي اعتبره رئيس الوزراء المؤقت آنذاك انقلابا على ثورة 17 فبراير 2011. ومنذ ذلك الوقت وتتجدد الاشتباكات بشكل مستمر بين القوات النظامية, وتلك المنشقة التابعة لحفتر, هذا فضلاً عن الميليشيات العسكرية الأخرى التابعة للفصائل السياسية المختلفة. ورغم أن البعض يصور الصراع فى ليبيا على أنه صراع بين القوى المدنية والتيارات الإسلامية المتشددة، إلا أنه يتداخل فى هذا الصراع العوامل القبلية والمناطقية. وتُشير التقديرات إلى أن ليبيا شهدت منذ الثورة فى فبراير 2011 وحتى الآن تشكل نحو 1700 تنظيم وميليشيا مسلحة ويتم تصنيفها فى إطار مجموعات ثلاث وهى " اللواءات الثورية " ويُقدر عددها بنحو 236 كتيبة ثورية ويتسم أفرادها بتوافر الخبرة القتالية لديهم وتتركز تلك اللواءات الثورية فى مصراتة وزنتان وبنى غازى. أما النمط الثانى فهو " لواءات ما بعد الثورة " وترجع نشأتها لمرحلة ما بعد الثورة ردا على الفراغ الأمنى الذى ترتب على هزيمة قوات القذافى وتتركز فى الأحياء والمناطق الموالية للقذافى. أما النمط الثالث فهو اللواءات غير المنظمة، وتتسم ببنية تنظيمية متماسكة شأنها شأن الكتائب الثورية وهى كتائب ثورية انفصلت عن سلطة المجالس العسكرية. وهناك عدد كبير من الجماعات التى تُشكل ذراعا للإخوان المسلمين في ليبيا منها جماعة أنصار الشريعة، الجماعة الإسلامية المقاتلة، كتائب عمر عبد الرحمن، ميليشيات الزنتان، والسلفية الجهادية. وفيما يتعلق بخريطة الصراع فى ليبيا في الوقت الراهن ففى الشرق (بنى غازى ودرنة) يوجد ثلاثة أطراف للصراع هى القوات الحكومية وقوات خليفة حفتر وقد نجحت الأخيرة فى التنسيق مع كتيبة حسن الجويفى فى برقة الحمراء، وكتيبة أولياء الدم والقبائل الكبرى فى الشرق الليبى. وأخيرا القوات المتشددة وتشمل جيش الشورى الإسلامى فى درنة وتنظيم أنصار الشريعة الإسلامية وكتيبة شهداء 17 فبراير وكتيبة راف الله السحافى. هذا فى الشرق وحده أما فى الغرب الليبي، حيث ينتشر الصراع القبلى وينتشر السلاح فنجد كتيبة القعقاع وكتيبة الصواعق وهما تشكيلان مسلحان محسوبان على الزنتان، كما يدعم لواء مدنى اللواء خليفة حفتر، كما يلقى الإسلاميون دعما من فصائل درع ليبيا، وغرفة عمليات ثوار ليبيا. كما توجد قوة درع ليبيا فى مصراتة. الصراع في ليبيا بصورته الراهنة ينذر بتفكك الدولة الليبية وانهيارها يؤكد ذلك ما سبق وأكد عليه رئيس الوزراء الليبي «عبد الله الثني» بأن الأسلحة التي تتوافر لدى الجماعات المتناحرة في طرابلسوبنغازي وغيرها أكبر مما تملكه قوات الجيش النظامية والشرطة, وهو ما يعد مؤشراً خطيراً على مستقبل الدولة الليبية. أما الجنوب اللبناني فعندما أهملته الدولة اللبنانية تقاسمه كل من حزب الله وحركة أمل والآن أصبح حزب الله يسيطر عليه كليا، حيث تم تجييش فقراء الجنوب وتحويلهم إلى ميليشيا طائفية, وهذا يتكرر فى اليمن وهو دليل على انكشاف الدولة. فالمشكلة الأساسية فى المنطقة هى أن الحركات السياسية والاجتماعية والطائفية والقبيلة تعاظمت قوتها فى المنطقة على حساب الدولة. حتى أن الأخيرة أصبحت تخشى منها وتتراجع فى مواجهتها. فالمنطقة تعيش الآن حالة من الفوضى لم يسبق أن واجهتها وهى التى دفعت الباحثين إلى تسميتها " بالفوضى الفتاكة " وذلك فى مواجهة المصطلح الأمريكى الفوضى الخلاقة. هناك من يرى أن المنطقة تمر بحالة حرب مذهبية وأن المنطقة على وشك الدخول فى حرب مذهبية شاملة خاصة فى ظل تصاعد حدة التهديدات والصراعات فى كل العراقوسوريا واليمن وجزء من الصراع فى الدول الثلاث يرتبط بالانقسامات المذهبية (السنة والشيعة). ففي العراق فشل المالكى فى استيعاب السنة – حيث عمد المالكى إلى الاستفادة من العديد من القوى العراقية لحين تحقيق هدفه ثم الانقلاب عليها بعد ذلك وأكبر دليل على ذلك ما حدث مع عناصر الصحوة العراقية حيث اعتمد عليها فى ضرب القوى المعارضة وبعد الانتهاء من تحقيق هدفه انقلب عليها ولم يقم بإدراجها ضمن المؤسسات الأمنية لتظل حتى الآن كميليشيات، ثم ما حدث مع الهاشمى وغيره وذلك بهدف تفكيك القوى السنية- خاصة فى ظل الدعم الإيراني لسياساته الطائفية وذلك فى إطار الإستراتيجية الإيرانية لنشر الفوضى فى المنطقة ثم العمل فى إطار تلك الفوضى لتحقيق مكاسب فإيران ومن واقع تجربتها فى كل من العراق وأفغانستان قبلها ثم سوريا مؤخرا أثبتت قدرتها على العمل وإدارة عناصر الفوضى فى المنطقة بشكل يحقق مكاسبها الذاتية . كل هذا أسهم فى نهاية الأمر فى بروز داعش، مع التأكيد على أن داعش لا يمكن النظر إليها على أنها مناصرة للسنة ودليل على ذلك أن أطرافا سنية تحاربها الآن حتى داخل العراق ولكن فى النهاية فهى نتاج سياسة المحاصصة الطائفية فى العراق. فبعض الباحثين يرى أن العراق هو باروميتر التعايش بين السنة والشيعة فى المنطقة برمتها . والتساؤل هو هل نحن على وشك تفتت بعض دول المنطقة وإنشاء خريطة للمنطقة لدول تقوم على أسس مذهبية ودينية وهو التصور الذى سبق وأن طرحته بعض المراكز الفكرية الغربية؟ ففى الواقع فالفكرة التى يروج لها البعض لظهور حرب سنية شيعية فى المنطقة ليست واردة، ولكن يظل المخرج ليس إقليميا أو دوليا وإنما داخليا من خلال اتفاق جميع الأطراف على أولوية الدولة فى مواجهة حالة الفوضى وللخروج من النفق المظلم. والتأكيد على أن بقاء الدولة هو الضمان الأساسى لتحقيق مكاسب للجميع بعيدا عن المذهب أو العرق أو الطائفة وحتى القبيلة . دكتورا ة فى العلاقات الدولية - مصر