تجعل الفلسفات الهندية القديمة الألم والمعاناة جزءا رئيسيا من طبيعة الإنسان الحياة، وعلى الإنسان دائما أن يسعى نحو السعادة، التي قد تتمثّل له في لذةٍ وقتية ولحظية، كالأكل والجنس مثلا، فيغرق فيها وربما يصل لحالة الإدمان، وقد تتمثّل في لذة النجاح الشخصي، كالمال والمنصب والنفوذ والشهرة، وقد تتمثّل في تقديم العون للآخرين دون مقابل مادي ولا معنوي، دون الطمع حتى في قول (شكرا)، ولا حتى في الامتنان الشخصي. كل ذلك قد يحقّق نوعا من السعادة، وفي لحظة ما يشعر المرء أنه لم يبلغها، أو أنها لم تظهر له كما كان يتصوّرها، أضف إلى ذلك أن الموت في لحظة ما من حياة الإنسان يصبح شديد الوضوح، كلنا يعرف الموت كمعلومة، من طفولتنا نتعلم أن الإنسان لا يُخلّد، في يوم ما سيودّع الدنيا، لكنها معلومة ليست أكثر، وفي مرحلة عمرية ما، فجأة يصبح الموت حقيقة، نشعر أن الموت قريب منا، وهو كفيل بأن يجعل كل سعادة ناقصة. هنا يبحث الإنسان عن الخلود، عن ذلك المطلق اللا تاريخي، يحاول الاتصال به والتوحد معه. الحديث عن الخلود مشهور عند الفلاسفة والمثقفين، والمدهش أن كثيرا من الناس لا يرون الخلود مؤرّقا لهم بالمعنى العام له. ويبدو لي أن الفكرة ظهرت بشكل معكوس، فالإنسان لا يسعى للخلود بشكل مباشر ولا واضح، وإنما فسّر الفلاسفة تصرفات الإنسان وسلوكياته بأنها بحث عن الخلود، فكأنهم جمعوا جزئيات كثيرة تحت كلية واحدة، والإنسان لا يعرف الكليات إلا إذا تفلّسف. فرغبة الإنسان أن يصنع شيئا، أو أن يساهم ولو بالقليل في هذا التراكم الإنساني الحضاري، ونزعته أن ينشر أفكاره ابتداء من ذوقه في الطعام واللباس وانتهاء بنشر دينه وأفكاره وثقافته، وكذلك أرقه حين يكون عميقا- على سبيل المثال- كل هذا يفسر هذه الكلية وهي بحثه عن الخلود. في رواية الخلود لميلان كونديرا، تبدأ بمشهد حقيقي، حيث كان يجلس في الطابق الأخير من فندق شهير يطل على باريس، مستلقيا أمام المسبح المكشوف، ولا يوجد هناك إلا امرأة في الستين من عمرها، تتعلم السباحة مع مدربها، كان يتأملها وينظر إليها، فلما انتهت، خرجت من المسبح ومشت بحذائه، وحين تجاوزت المدرب بأربعة أمتار تقريبا استدارت نحوه، وابتسمت، ثم أومأت له بيدها، بخفة ساحرة كمن ترمي كرة صغيرة لعشيقها، وابتسامة غير متكلّفة كفتاة في العشرين، يقول كونديرا: "بدت ابتسامتها وإيماءتها مفعمتين بالسحر، بينما لم يعُد للوجه والجسد شيء من ذلك. إنه سحر مغمور في إيماءة لا في سحر الجسد، لكن رغم علم المرأة بأنها لم تعُد جميلة، تناست ذلك في هذه اللحظة. إننا نعيش جميعا في حيّز ما من أنفسنا خارج الزمن. لعلّنا لا نعي سنّنا إلا في بعض اللحظات الاستثنائية.. فبفضل هذه الإيماءة التي استغرقت ثانية واحدة، انكشف جوهر سحرها غير المرتبط بالزمن". يعُدّ كونديرا تلك الإيماءة لحظة من لحظات الخلود، لحظة لا يعي الإنسان فيها الزمن، فيستطيع أن يتجاوزه، لحظة من نسيان الماضي والمستقبل معا، لحظة تكون فيها الأبدية حاضرة، وتبقى في الذاكرة حيث يتجلى فيها كل الجمال. فيلم The Fault in Our Stars وهو من أجمل ما أُنتج في 2014م، يحكي قصة فتاة في السادسة عشرة من عمرها مصابة بسرطان الرئة، تعشق فتى في السابعة عشرة من عمره بُترت ساقه كذلك بسبب السرطان، في البداية تخاف الفتاة من العلاقات العميقة بسبب الرحيل، وكل رحيل يولّد انكسارا في قلوب المحبين، فتقرر أن تقلل من الحزن الناتج عن رحيلها عبر اتخاذ مسافة بينها وبين الناس والأصدقاء، لكن الحب لا يكون اختياريا في كل الأوقات. وقد كانت للفتى أيضا رؤيته التي تجعل الخلود في ذكرٍ حسنٍ بعد الموت، كان يسعى لأن يكون بطلا في تجاوز المرض وحسن التعامل معه، كان يريد أن يحكي أسطورة الشفاء والروح العالية، وبعد فسحة من الوقت، تدرك الفتاة أن الخلود ليس في حياة طويلة، ويدرك الفتى أن الخلود ليس في ذكر بعد الموت، وإنما في العثور على الأبدية داخل الحياة القصيرة. تدرك الفتاة بعد لحظات قصيرة مع ذلك الفتى أن الزمن ليس كما يبدو، فالأرقام المتسلسلة من واحد إلى مليون، أو إلى ما لا نهاية، ليست هي الأبدية كلها، فبين 1 و2 أبدية أخرى، هناك الأرقام (0.1، 0,01، 0.000263). وألوان الطيف ليست هي الألوان التي تظهر لنا فحسب، فبين كل لون وآخر، وفي داخل كل لون تدرجات لا نهائية.. في داخل كل أبدية أبديات متعددة، وهكذا الحياة، في داخل كل لحظة أبديات متعددة، خلود لا ينتهي، يقتله الفراغ والخوف، ويكشفه المعنى، أو يكشف جزءا منه على الأقل. هناك لحظات تُحفر في الذاكرة ولا ينساها المرء، تبقى كمشهد خالد، تعيده الذاكرة إلينا ونحن نستلقي على الفراش ننتظر النوم، أو حين نجلس وحدنا على كرسي الطائرة ونلقي برأسنا إلى الخلف، لحظات كانت الأبدية فيها حاضرة، رأينا فيها أبدية الألوان والأرقام. اسأل المرأة عن يوم عرسها، عن لحظة الولادة.. اسأل الناس عن أول يوم دراسي، عن نجاة غير متوقعة من الموت، واسألهم عن لحظة ورود الأخبار السيئة، فصل من العمل، انهيار في السوق، مرض قاتل، تهديد حقيقي. ماذا لو كنا نعي لحظة دخولنا في الحياة، وماذا لو أن الموت ليس المحطة الأخيرة في هذه الحياة الدنيا، أليست هاتان اللحظتان هما الأكثر أبدية.