يأتي اليوم الوطني الرابع والثمانون للمملكة العربية السعودية في هذا العام 1435ه، موافقاً لليوم الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة الشهر الحرام وبحلول موسم الحج المعظم، وفي ذلك من المؤشرات والدلالات ما يؤكد تميز هذا الوطن الخير المبارك ويربط ثقافته الوطنية بأفق الأمة المسلمة ومرتكزاتها الأساس فهو قبلة المسلمين ومهوى أفئدة الناس؛ يقصده المعتمرون والحجاج من أقطار العالم ومن أرجاء المعمورة في مواكب من نور وأنهار تتدفق بعذوبة التلبية في مواسم الخيرات والرحمات والبركات، لترتوي منها ثقافة الوطن قيماً ذات أبعاد تاريخية وحضارية وإنسانية تنحاز للخلق القويم والمسلك الرشيد وتجنح لخيارات السلام وتنمية معاني الخير والبر والإحسان على مستوى الفرد والمجتمع والوطن والأمة، إنه لشرف كبير وقدر محتم لثقافتنا الوطنية أن تتشرب هذه المعاني الكريمة وأن تكتنز هذه القيم الأصيلة التي تضرب بجذورها في تاريخ النبوة والأنبياء وثقافة الرسالة والرسل، لا غرو أن تضطلع بمهمة الاستخلاف في صورتها الناصعة النقية ومضامينها الإنسانية السمحة وأبعادها الحضارية الراقية والمدنية المتألقة التي أعلنها الرسول الخاتم في خطبه البالغة المتكررة في حجة الوداع، حين وقوفه على صعيد عرفات وفي مواطن من منى وغيرها يخاطب الناس كافة في مشهد جليل ولقاء مهيب، لا زال ينبض في كيان الأمة بالحيوية والتقى والصلاح والفاعلية الخيرة ولما تزل أصداؤه في عرصات المشاعر المقدسة تغاريد شجية تطرب النفس وتسر الخاطر، تعبق في أجوائها بالذكريات الخالدة والمآثر الحميدة، تعم بالخير وتسطع بالنور كل عام من هذه البقاع الطاهرة ومقدساتها الشامخة، مؤكدةً على وحدة الأمة ومعلنة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية عامة وحقوق المرأة خاصة، ومبينة الواجبات والحقوق ومجلية العقائد الدينية وأحكام الشرع الحنيف ومجددة لمكانة أم القرى وما حولها عبر التاريخ، وما حفظه ثراها الطاهر من مدارج أبي الأنبياء إبراهيم - عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم - الذي أسكن بعضاً من أهله بواديها ورفع القواعد من البيت الحرام بأمر الله - عز جل - وأمره أن يؤذن في الناس بالحج ووعد - جل وعلا - بأنهم سيلبون النداء وسيقدمون للحج إلى البيت الحرام وإلى تلك البقاع المقدسة من كل فج عميق. منذُ ذلك التاريخ وحتى العصر الحاضر وخصائص الاصطفاء في الأزمنة والأمكنة وأسرار التكريم لأمة الإسلام تذهل العقول وتسترعي انتباه العالم بأسره، دروس في التوحيد والوحدة والأخلاق والحضارة، دروس محورها عبادة الله وحده لا شريك له وطاعته بنية خالصة مخلصة، واقتداء علمي شرعي دقيق بالهدي النبوي والرسالة الخاتمة المؤسسة على الحنيفية المسلمة التي بعثها من جديد في أنموذجها الفريد ومثاليتها الحقة، المصطفى الكريم العظيم نبينا وسيدنا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - أسوة تتبع ومثال يقتدى حتى يرث الله الأرض ومن عليها (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). إنها الحضارة في حقيقتها وجوهرها وفي أعلى مدارجها وأنبل مقاصدها ومراميها، تلك التي تعطي الوطنية كينونتها الحقة وتكفل لها منطقها السديد ومشروعيتها واستحقاقاتها، وفي الوقت نفسه تفتح لها آفاق التواصل النبيل مع الأمم والشعوب والثقافات في دوائر متناغمة وتوازنات محكمة وتفاعل مستنير. إن ثقافة الحج والعمرة والزيارة من أعظم الروافد لثقافتنا الوطنية في بناء شخصية الفرد والمجتمع؛ تبني شخصية الفرد مكتملة الجوانب التشريعية والأخلاقية والتاريخية والمدنية والإنسانية، ولعل مجيء فريضة الحج الركن الأخير من أركان الإسلام يعزز هذا التكامل في شخصية الفرد؛ كون هذه الفريضة تجمع بين النظري والعملي وتربط الدنيوي بالأخروي، وتفتح ذهن الفرد على اليوم الآخر وتقرب له المشاهد المستقبلية التي جاء بها الدين من بعث وحشر ووقوف بين يدي الله ودنو الله من عباده للحساب والجزاء، فكما كان الفرد وخاصةً من يأتي من القاصية يسمع عن الحج ومناسكه وشعائره وما ينطوي عليه من صور ومشاهد ومقامات ووفود وازدحامات، ثم يقف على حقيقة ذلك في حجه فسيتحقق البعث والنشور ويصبح حقيقة كحقيقة هذا الحج .. ولهذا الشعور تأثيره البالغ في رسوخ الإيمان وصقل الفكر والوجدان وفيه التحفيز القوي على صدق التوجه لعبادة الله تعالى وطاعته، والاستقامة على صراطه المستقيم والالتزام بأحكام الدين وهديه وآدابه، وعلى مستوى المجتمع فهو مجموعة الأفراد بصلاحهم يصلح وتكون لبنات بنائه قوية متماسكة يشد بعضه بعضا، كذلك تتكون لدى المجتمع ثقافة الانفتاح على العالم والتواصل معه وإدراك التأثر والتأثير، وأن مهمة الدعوة إلى سبيل الله ركن ركين في ثقافتنا الوطنية، وهو ما ورد في خطاب الملك المؤسس المغفور له جلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - في حج عام 1357ه 1938م. http://m.youtube.com/watch?v=vEVA5TvFcWs وتوارثه ملوك هذا الوطن وولاة الأمر فيه كابراً عن كابر حتى كان لقب الملك في هذا الوطن المبارك (خادم الحرمين الشريفين) http://m.youtube.com/watch?v=WNBtHJZIqOo إضافة لذلك الجهود التي تبذلها الدولة وحكومتها الرشيدة - وفقها الله - في توسعة الحرمين الشريفين والمشاريع الجبارة في المشاعر المقدسة وشبكة الطرق إليها وبينها، والقيام على قدم وساق لخدمة الحجاج والمعتمرين على مدار العام والسهر على راحتهم، وتوفير الأمن والأمان لهم وتجنيد كافة الطاقات والجهود والوسائل والأساليب لخدمتهم، وتوفير العيش الكريم للعاكف فيه والباد والاستقبال اللائق بضيوف الرحمن منذ قدومهم وحتى وداعهم ومغادرتهم سالمين غانمين معززين مكرمين، هذا بفضل الله أولاً ثم بفضل هذه الثقافة الوطنية التي تعي وتدرك هذه القيم ومعطياتها المحلية والإقليمية والعالمية. http://m.youtube.com/watch?v=va2X2QBzujk إن ثقافة الحج مكون أساس في الثقافة الوطنية بمضامينها التاريخية والحضارية ومقدساتها المكانية وشعائرها الدينية التي حقها التعظيم (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) ونظراً لما تعانيه الشعوب العربية والإسلامية في الوقت الراهن من تحديات ومصاعب واستهداف لوحدتها، ليس على مستوى وحدة الأمة فحسب وإنما على صعيد الوحدة الوطنية بشتى الوسائل والأساليب المباشرة وغير المباشرة، لذلك فإن المسلمين بحاجة لسياسات شرعية ترتب الأولويات وترسم الاستراتيجيات الناجعة. سيظل الحج مجدداً لمعاني الوحدة والتوحيد على مستوى الوحدة الوطنية وملهماً لمضامين التكامل والتكافل والتراحم والتلاحم على مستوى الأمة الإسلامية، ولعله أيضاً أن يكون في هذا العام فرصة للأمة كي تنجز وثيقة شرف لوحدة المسلمين ودرء مخاطر التفتيت الممنهجة ضدهم التي باتت صارخة وواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. *عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة - الرياض سابقاً