خيرٌ عظيم أن يسعى المسلم بين الصفا والمروة؛ فإنها من شعائر الله. وأعظم خيرا أن يدرك مع ذلك المعاني الثانوية في هذا المسعى، ثم يغمس فيها قلبه كلما سعى بين الصفا والمروة. إن لهذا السعي قصة قديمة حين كان وادي مكة موحشا بلا أنيس ولا جليس. وجاء أبو الأنبياء بزوجه هاجر وابنها إسماعيل عند بيت الله الحرام. ثم تركهم هناك، ليس معهم إلا جراب من تمر، وسقاء من ماء ! «ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم. قالت: إذن لا يضيعنا». هذه الكلمة هي ماء الحياة الذي يغتسل فيه المحرم وهو يسعى بين الصفا والمروة، ويمكث في هذه الحقيقة يرسخها بكل خطوة يخطوها بين الجبلين «آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا». إن هاجر لم تخلق من طين آخر، وليست شيئا آخر لا يشعر بمشاعرنا، ولا يقلق لقلقنا. بل هي من جنسنا تحب الجليس والأنيس، وتستوحش من الفراغ والوحدة، وتخاف على نفسها وصبيها من الجوع والعطش، ولذلك تبعته وسألته وكررت عليه المسألة حتى علمت أنه أمر الله! وفي الحديث: «فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأُنْس» بضم الهمز ويجوز كسرها. كذلك كان إبراهيم يشعر بمشاعر الأبوة ولهفة قلوبهم، ولكن يُخضعها لأمر ربه طاعةً ويقينا. ولذلك حين وصل «عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الكلمات ورفع يديه فقال: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (37) [سورة إبراهيم]. لقد انتهى سقاء الماء، وأدركهم الظمأ، وبكى الصبي، «وجعلت تنظر إليه يتلوى (أو قال يتلبط)»! وفي رواية أخرى للبخاري «كأنه ينشغ للموت» أي يشهق ويعلو صوته وينخفض كالذي ينازع! تذكّر أخي أن هاجر لم تكن تعلم ماذا سيحدث كما نعلم، وأن نياط قلبها يمزقها بكاء صبيها وخشية الهلكة. فذهبت وهي في هذا الكرب، ليس في الوادي إلا هي وابنها وشبح الموت والعطش. حتى لو صرخت.. من يسمع صراخها؟! فصعدت على الصفا وهي في هذا الكرب تبحث عن الفرج، وظلت تسعى إلى هذا الجبل تنظر منه، ثم تسعى إلى الجبل الآخر تنظر منه، وهي على حالها في الخوف والعطش والبحث عن الفرج والمخرج، وفي قلبها يقين راسخ «آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا». وفي قلبها الأمل وحسن الظن كأنما تعلم بوجود الفرج حولها وهي تبحث عنه. وربها ينظر إليها وهي تسعى، وصبيها يتلوى، ويدخر لهما ينابيع زمزم يفجرها من تحت قدميه، لكنه الابتلاء لابد أن تستكمل أشواطه. حتى إذا انتهت من سعيها سابع مرة، وكأني بها بلغت ما وصفه القرآن عن أنبيائه: «حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا» [سورة يوسف: 110]. «سمعت صوتا فقالت: «صه» تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف». إن السعي بين الصفا والمروة يعلمنا معاني اليقين والثقة بالله العلي العظيم، ويعلمنا الأمل وحسن الظن بالله، ويعلمنا كيف يكون النصر مع الصبر، والفرج بعد الكرب. إن سعي هاجر بين الجبلين بحثا عن الماء أو الناس يعلمنا كيف يكون التوكل على الله مع بذل الأسباب واستكمالها. إن الأمل يا سادة هو الذي يقيم صاحبه للعمل رغم التعب والخوف والظمأ، والإحباط هو الذي يأتي على البقية الباقية من الهمة والعزيمة فيقعدها، ويجلس صاحبها قاعدا يائسا ينتظر الموت. النصر والفرج والظفر في الطريق أمامك لكن دون ذلك ابتلاء وامتحان، ولا يوجد طريق آخر يوصلنا إلى ذلك النصر دون أن نبتلى وننتظر ونصبر شوطا إثر شوط: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (214) [سورة البقرة]. لم يرتو من ماء زمزم من لم يطعم فيه معاني الفأل والفرج! لم يرتو من ماء زمزم من لم يذق فيه طعم القدمين الطاهرتين لإسماعيل حين جاءهم جبرائيل بالبشرى والأمل! لم يرتو من ماء زمزم من لم يطعم فيه هذه الكلمة: «إذن لا يضيِّعنا»! ليتنا نتداوى بماء زمزم من معاني الحيرة واليأس، ونرتوي من ماء زمزم كلما عطشت قلوبنا لليقين والإيمان. ويظل المسعى يعلمنا دوما كيف نتشبث بالأمل واليقين مهما طالت خطواتنا في أشواط الابتلاء.