لما سُئل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن حكم القراءة خلف الإمام في الصلاة الجهرية أجاب قائلًا: «إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، وإن لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة» (جامع بيان العلم وفضله رقم1690). والإمام ابن القيم هو الآخر يذكر عن الإمام الأوزاعي أنه لما سئل عن حكم بدء الكافر بالسلام قال: «إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك» (زاد المعاد ج2 ص425). هاتان الإجابتان ومن إمامين عميقين في تكوينهما الفقهي تدلنا وبوضوح على تلك الروح التسامحية المرنة التي يتسم بها خيار الأمة وقدرتهم العالية على توسيع دائرة التغافر والتعاذر، وتجاوز حظوظ النفس واستيعاب المخالف بل وتقديم رؤيته وكأنها الخيار الأجدى بالاختيار، وهو الأمر الذي أشار إليه الإمام (القرطبي) حيث قرر أن من حق كل واحد من المختلفين خلافًا معتبرًا أن يصير كل واحد منهما «إلى ما ظهر له ولا يثرب على الآخر ولا يلومه» (المفهم ج6ص699). كلما اتسع أفق المرء وكلما انداحت دوائر قراءاته كان متمنعًا على حالات الكبت الثقافي كلما كان أكثر تقبلًا للمخالف وأكثر تفهمًا لرؤيته، وبالعكس كلما تعاظم منسوب الجهل واستحكمت آصاره وتنامت امتداداته كلما تشوشت رؤية المرء وتشوهت أحكامه وتلبسته حالة من الدوغمائية الدافعة باتجاه النفور من المختلف والقطع بعدم صوابيته ولاغرو فالذهنية المترهلة بطبيعتها تعتريها حالة من الجمود تجعلها شديدة الانحباس في مدارات الأحادية الضيقة إنها تراوح مكانها فتظل متأبية على الاستجابة للمعطيات غير المألوفة مستعصية على التحديث فضلًا عن الدخول في حالة من البرمجة الذهنية المستمرة التي لا يلقاها إلا الذين صبروا على تجشم معاناة البحث عن الحقيقة، وتجردوا من بواعث التحيز كما نرى ذلك متجسدًا في قصة (الشافعي) حينما تناظر مع (إسحاق بن راهويه) في مسألة طهارة جلد الميتة بالدباغ، وانتهت المناظرة وذلك المشهدالحواري الآخاذ برجوع كل طرف إلى رأي الآخر وعلى نحو يعكس حجم الانسجام مع مواضعات السلوك الحواري المتجرد. لقد كان بإمكان الإمامين أن يجنح كل واحد منهما إلى تهوين الاعتبار العلمي للآخر وذلك عبر ألوان من الكر والفر والمخاتلة الاستدلالية وإحاطة متبنيات الأنا بإيحاءات تعطيها زخَما في نفس المعنى، واستدعاء أساليب متكئة على الفذلكة والاحتيال الفقهي الذي يضاعف حدة الصراع المتأدلج لكن شيئًا من ذلك لم يحدث وحاشاهما ذلك كيف لا وهما ممن تمحض للموضوعية وتشبع بالتصورات الإيمانية المحلِقة. إن للمألوف سلطة وللسائد هيبة وللموروث التاريخي جلالة هي أحيانًا تحكم قبضتها على العقل حتى يفقد قدرته على التجرد الذي أحيانًا قد يكون دونه خرط القتاد، وهذا ما يفرض على الفعاليات العلمية والدوائر الأكاديمية إذاعة ثقافة الاستقلال وإحياء روح التجرد وتكريس موجباتها.