جمعية الإعلام السياحي راعياً إعلامياً في «معرض تعاوني للتدريب»    الإدارة الأصلية والدراسة العصرية    ايفان توني نجم الثنائيات في الأهلي    7 أجانب ضمن قائمة الهلال لمواجهة السد    مُحافظ الطائف يطَّلع على مشروع التحول في حوكمة إدارة مكاتب التعليم    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    بنان يوسع مشاركات الحرفيين المحليين والدوليين    "جائزة القلم الذهبي" تحقق رقمًا قياسيًا بمشاركات من 49 دولة    ضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة يعبرون عن امتنانهم لمملكة.    ملتقى الأوقاف يؤكد أهمية الميثاق العائلي لنجاح الأوقاف العائلية    الحُب المُعلن والتباهي على مواقع التواصل    الباحة تسجّل أعلى كمية أمطار ب 82.2 ملم    أمير تبوك يستقبل وزير النقل والخدمات اللوجيستية    بعد تصريحاته المثيرة للجدل.. هل يغازل محمد صلاح الدوري السعودي؟    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    تعليم جازان يحتفي باليوم العالمي للطفل تحت شعار "مستقبل تعليمي أفضل لكل طفل"    توصية بعقد مؤتمر التوائم الملتصقة سنويًا بمبادرة سعودية    قطاع ومستشفى بلّحمر يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    كايسيد وتحالف الحضارات للأمم المتحدة يُمددان مذكرة التفاهم لأربعة أعوام    «حساب المواطن»: بدء تطبيق معايير القدرة المالية على المتقدمين والمؤهلين وتفعيل الزيارات الميدانية للأفراد المستقلين    أمير حائل يستقبل سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى المملكة    وكيل إمارة المنطقة الشرقية يستقبل القنصل العام المصري    مدير فرع وزارة الصحة بجازان يفتتح المخيم الصحي الشتوي التوعوي    311 طالبًا وطالبة من تعليم جازان يؤدون اختبار مسابقة موهوب 2    حسين الصادق يستقبل من منصبه في المنتخب السعودي    السند يكرِّم المشاركين في مشروع التحول إلى الاستحقاق المحاسبي    ترسية المشروع الاستثماري لتطوير كورنيش الحمراء بالدمام (الشاطئ الغربي)    "نايف الراجحي الاستثمارية" تستحوذ على حصة استراتيجية في شركة "موضوع" وتعزز استثمارها في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    NHC تطلق 10 مشاريع عمرانية في وجهة الفرسان شمال شرق الرياض    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    بعد توقف قطار انتصارات الهلال.. الأهلي.. السابع بلا خسارة في تاريخ دوريات العالم    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    منصة ثقافية وفنية تقدم تجربة مميزة للفنانين.. برنامج جدة التاريخية يحتضن مهرجان البحر الأحمر السينمائي    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «كل البيعة خربانة»    الأهل والأقارب أولاً    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوائل الشهور العربية ( 1- 2)
مع النوادر
نشر في الرياض يوم 21 - 11 - 2008

* كثرت في السنوات الأخيرة النقاشات العلمية حول إثبات الشهور وطريقه ذلك وكيفيتها والحديث حولها. ولأن الشيخ المحدث أحمد شاكر - رحمه الله رحمه واسعة- له مؤلف بعنوان : أوائل الشهور العربية.
وكون البعض قد استخدم هذا البحث بدون عزوا أو إشارة إليه من بعض طلبة العلم وإغارتهم عليه ؟. يضاف إلى ندرة هذا الكتاب رأينا للامانة العلمية و تعميماً للفائدة العلمية إعادة نشره ومعزواً لمؤلفه منسوباً الى المحدث والعالم أحمد محمد شاكر (1309ه -1377ه الموافق 1892-1958م)..والذي قال عنه العلماء "ولم يخلفه مثله في علم الحديث بمصر" . للمزيد عنه انظر الأعلام ، للزر كلي، الطبعة . الثامنة،1989م ، :1/253) .
وقد طبع هذا الكتاب في سنة 1358ه/1939م . مطبعه الحلبي، بمصر. وها هو نص الكتاب النادر.
@أوائل الشهور العربية
هل يجوز شرعاً إثباتها بالحساب الفلكي ؟ بحث جديد علميّ حرّ
بقلم :أحمد محمد شاكر .القاضي الشرعي.
بسم الله الرحمن الرحيم
ثبت في مصر لدى المحكمة العليا الشرعية أن أول شهر ذي الحجة من هذا العام (سنة 1357) يوم السبت، فكان عيد الأضحى يوم الاثنين ( 30يناير سنة 1939)
بعد بضعة أيام ، نشر في المقطم أن الحكومة العربية السعودية لم يثبت عندها أن السبت أول ذي الحجة، فصار أوله الأحد، فكان وقوف الحجيج بعرفة يوم الاثنين ، والعيد يوم الثلاثاء ( 31يناير سنة 1939).
وفي يوم الجمعة 21ذي الحجة ( 10فبراير سنة 1939) نشرت جريدة البلاغ عن مراسلها في بومباي بالهند في أول فبراير سنة 1939: أن المسلمين في بومباي احتفلوا بعيد الأضحى في هذا العام "يوم الأربعاء، خلافاً لما أعلن في الممالك الإسلامية الأخرى" . ومعنى هذا أنه لم يثبت لدى مسلمي الهند أن أول الشهر السبت ولا الأحد ، فاعتبروا أوله يوم الاثنين. (ص3)
وهكذا في أكثر أشهر المواسم، يتراءى الناس الهلال في البلاد الإسلامية، فيرى في بلد ولا يرى في بلد آخر، ثم تختلف مواسم العبادات في بلاد المسلمين، فبلد صائم وبلد مفطر، وبلد مضح وبلد يصوم أهله يوم عرفة.
قد كتب العلماء والفقهاء في إثبات الأهلة أبحاثاً قيمة نفيسة، في كتب التفسير والحديث والفقه وغيرها، واتفقت كلمتهم أو كادت على أن العبرة في ثبوت الشهر بالرؤية وحدها، وأنه لا يعتبر حساب منازل القمر ولا حساب المنجم، إلا شيئا يحكى في مذهب الشافعي: أنه يجوز للحاسب أو المنجم أن يعمل في نفسه بحسابه، وإلا شيئا آخر عندهم: أنه يجوز لغيرهما تقليدهما، أو يحوز تقليد الحاسب دون المنجم.(1)
والعمدة في الباب الأحاديث الصحيحة التي لا شك في صحتها: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدرواله، (وما جاء في هذا المعنى من ألفاظ الأحاديث الصحيحة)(2). (ص4)
ثم اختلف العلماء: هل يعتبر اختلاف المطالع أو لا يعتبر؟ أي إنه إذا رؤي الهلال في بلد، هل يسري حكم الرؤية وثبوت أول الشهر على غيره من البلاد، وإن بعد ما بينهما، وإن اختلف المطلع في كل منهما؟ أو يكون لكل بلد رؤيته، فيكون في مصر على غير ما في الحجاز أو العراق أو نحو ذلك؟
أما الشافعية فإنهم ذهبوا إلى أن لكل بلد رؤيتهم، على خلاف عندهم فيما يعتبر به البعد والقرب: أهو اختلاف المطالع، أم اتحاد الأقاليم واختلافها، أم مسافة القصر؟!
قال النووي في المجموع بعد أن فصل ذلك(3) "فرع في مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم: قد ذكرنا تفصيل مذهبنا. ونقل ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق بن راهويه: أنه لا يلزم غير أهل بلد الرؤية، وعن الليث والشافعي وأحمد: يلزم، قال: و لا أعلمه إلا قول المدني والكوفي. يعني مالكا وأبا حنيفة"(4).(ص5)
وقد كثر الكلام في هذه السنين في هذا المعنى وتكرر، من أجل سرعة الاتصال بين أقطار الأرض، ، بما استحدث من التلغراف والتلفون أولا، ثم بالراديو أخيرا. وصارت بلاد الإسلام كأنها بلد واحد في وصول الأخبار بإثبات الشهر ونفيه، فيرى الناس أن هذا الاضطراب في مسائل شرعية هامة موقتة بوقوت سنوية أو شهرية، مما لا يصبرون على بقائه، ويحاولون أن يخرجوا منه، ما وجدوا لتوحيد الكلمة فيها سبيلاً
وأذكر أنه جاء في العام الماضي أو قبله سؤال مفصل في هذا المعنى من الهند إلى مشيخة الأزهر الشريف، وأرسلت المشيخة نسخاً منه إلى جماعة كبار العلماء، ليجيب كل من حضراتهم بما يراه أو يعلمه ، وجاءت نسخته إلى والدي، ولا أدري ماذا كان من شأن السؤال بعد ذلك. أما والدي فقد حبسه المرض عن التصرف بالقول أو بالكتابة، شفاه الله.
وقد أدرت هذا البحث في فكري طويلاً ، بعد أن بدا لي فيه رأي، أرجو أن يكون ثوابا. ثم جاء الخلاف في هذا العام في يوم عرفة، وهو يوم الحج الأكبر وهو أعظم المواسم الإسلامية،وشهر ذي الحجة أخطر الشهور أثراً إذ أن يوم عرفة، وهو اليوم التاسع منه: ظرف محدود لأداء ركن الحج، وهو الوقوف بعرفة، وهو لا يدور إلا مرة واحدة في السنة، وأكثر الحجاج لا يحجون إلا مرة في العمر، فلعلهم إن أخطأهم الوقوف في يومه الحقيقي يخشون أن لا يكونوا قد أدوا الفريضة عن أنفسهم .
فكان هذا حافزاً لي على كتابة ما رأيته في إثبات الأهلة، لأعرضه على أهل العلم والنظر، من الفقهاء والمحدثين وغيرهم، في أنحاء العالم الإسلامي.
فممّا لا شك فيه أن العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام لم يكونوا يعرفون العلوم الفلكية معرفة عملية جازمة، كانوا أمة أميين، لا يكتبون ولا يحسبون، ومن شدا منهم شيئا من ذلك فإنما يعرف مبادئ أو قشورا، عرفها بالملاحظة والتقبع، أو بالسماع والخبر، لم تبن على قواعد رياضية،ولا على براهين قطعية ترجع إلى مقدمات أولية يقينية، ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع إثبات الشهر في عبادتهم إلى الأمر القطعي المشاهد، الذي هو في مقدور كل واحد منهم، أو في مقدور أكثرهم، وهو رؤية الهلال بالعين المجردة، فإن هذا أحكم وأضبط لمواقيت شعائرهم وعباداتهم، وهو الذي يصل إليه اليقين والثقة مما في استطاعتهم . ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ولم يكن مما يوافق حكمة الشارع أن يجعل مناط الإثبات في الأهلة الحساب والفلك ، وهم لا يعرفون شيئا من ذلك في حواضرهم، وكثير منهم بادون لا تصل إليهم أنباء الحوضر، إلا في فترات متقاربة حيناً ومتباعدة أحياناً فلو جعله لهم بالحساب والفلك لأعنتهم، ولم يعرفه منهم إلا الشاذ والنادر في البوادي، عن سماع إن وصل إليهم، ولم يعرفه أهل الحواضر إلا تقليداً لبعض أهل الحساب، وأكثرهم أو كلهم من أهل الكتاب.
ثم فتح المسلمون الدنيا، وملكوا زمام العلوم، وتوسعوا في كل أفنانها، وترجموا علوم الأوائل، ونبغوا فيها، وكشفوا كثيراً من خباياها،وحفظوها لمن بعدهم،ومنها علوم الفلك والهيئة وحساب النجوم(5).
وكان أكثر الفقهاء والمحدثين لا يعرفون علوم الفلك(ص8)، أو هم يعرفون بعض مبادئها، وكان بعضهم، أو كثير منهم لا يثق بمن يعرفها ولا يطمئن إليه، بل كان بعضهم يرمي المشتغل بها بالزيغ والابتداع ظناً منه أن هذه العلوم يتوسل بها أهلها إلى ادعاء العلم بالغيب (التنجيم)، وكان بعضهم يدعي ذلك فعلا، فأساء إلى نفسه وإلى علمه، والفقهاء معذورون. ومن كان من الفقهاء والعلماء يعرف هذه العلوم لم يكن بمستطيع أن يحدد موقفها الصحيح بالنسبة إلى الدين والفقه، بل كان يشير إليها على تخوف.
فانظر مثلا إلى تقي الدين السبكي، يذكر في فتاويه(6) أن الحساب إذ دل بمقدمات قطعية على عدم إمكان رؤية الهلال لم يقبل فيه شهادة الشهود وتحمل على الكذب أو الغلط ثم يقول: "لأن الحساب قطعي، والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع ،فضلاً عن أن يقدم عليه، والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكناً حسا وعقلاً وشرعاً فإذا فرض دلالة الحساب قطعاً على عدم الإمكان استحال القبول شرعا، لاستحالة المشهود به، والشرع لا يأتي بالمستحيلات". ثم يقول بعد ذلك(ص9)"واعلم أنه ليس مرادنا بالقطع ههنا بالقطع ههنا الذي يحصل بالبرهان الذي مقدماته كلها عقلية، فإن الحال هنا ليس كذلك، وإنما هو مبني على أرصاد وتجارب طويلة، وتسيير منازل الشمس والقمر، ومعرفة حصول الضوء الذي فيه، بحيث يتمكن الناس من رؤيته، والناس يختلفون في حدة البصر" . إلى آخر كلامه.
وانظر إلى الإمام الكبير تقي الدين بن دقيق(7) العيد يقول في شرح عمدة الأحكام (ج 2ص 206): "والذي أقول به أن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه في الصوم بمفارقة القمر للشمس، على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين، فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع، كالغيم مثلاً : فهذا يقتضي الوجوب، لو جود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بمشروطة في اللزوم، لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا على بالحساب با كمال (10) العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات ، أن اليوم من رمضان : وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه"،
هكذا كان شأنهم، إذ كانت العلوم الكونية غير ذائعة ذيعان العلوم الدينية وما إليها، ولم تكن قواعدها قطعية الثبوت عند العلماء.
وهذه الشريعة الغراء السمحة، باقية على الدهر، إلى أن يأذن الله بانتهاء هذه الحياة الدنيا، فهي تشربع لكل أمة، ولكل عصر، ولذلك نرى في نصوص الكتاب والسنة إشارات دقيقة لما يستحدث من الشؤون، فإذا جاء مصداقها فسرت وعلمت، وإن فسرها المتقدمون على غير حقيقتها،
وقد أشير في السنة الصحيحة إلى ما نحن بصدده، فروى البخاري من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين"(8) ورواه مالك (ص11) في الموطأ(9) والبخاري ومسلم وغيرهما بلفظ: "الشهر تسعة وعشرون، فلاتصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له".
وقد أصاب علماؤنا المقدمون رحمهم الله في تفسير معنى الحديث، وأخطؤوا في تأويله، ومن أجمع قول لهم في ذلك قول الحافظ ابن حجر(10): "المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير. فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لرفع الحرج عنهم في معاناة التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق ينفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً. ويوضحه قوله في الحديث الماضي: فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ولم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدل عند الإغماء يستوي فيه المكلفون، فير تفع الاختلاف والنزاع عنهم. وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك، وهم الروافض(11)، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي: (ص12) وإجماع السلف الصالح حجة عليهم . وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، لأنها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلا القليل".
فهذا التفسير صواب، في أن العبرة بالرؤية لا بالحساب، والتأويل خطأ، في أنه لو حدث من يعرف ذلك (استمر الحكم في الصوم)، لأن الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللا بعلة منصوصة، وهي أن الأمة "أمية لا تكتب ولا تحسب"، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما، فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب وتحسب، أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس عامتهم وخاصتهم أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى، إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة الأمية: وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده، وأن لا يرجعوا إلى(ص13) الرؤية إلا حين يستعصي عليهم العلم به، كما إذا كان ناس في بادية أو قرية، لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب،
وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب أيضا الرجوع إلى الحساب الحقيق للأهلة، واطراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أول الشهر الحقيق الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولو بلحظة واحدة.
فهذه بلدنا مصر فيها مرصد من أعظم المراصد، وفيها علماء بالفلك والهيئة، من الأزهريين وغيرهم ممن يستطيعون أن يحسبوا حساب القمر حين يغيب بعد الشمس ولو بلحظة، في كل وقت وكل شهر، ويحكموا في ذلك الكم القاطع الجازم، الموجب لليقين عند أهل العلم، فماذا علينا من بأس إذا رجعنا لقولهم وعلمهم،ووثقنا بحسابهم في ذلك، تقتنا بحسابهم في مواقيت الصلاة وغيرها من العبادات ؟ وتقتنا بأخبار التلغراف والتلفون والراديو في إثبات الهلال بالرؤية من أي بلد من بلدان مصر أو السودان أو غيرهما؟(ص14)
لقد كان للأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، منذ أكثر من عشر سنين ، حين كان رئيس المحكمة العليا الشرعية رأي في رد شهادة الشهود، إذا كان الحساب يقطع بعدم إمكان الرؤية، كالرأي الذي نقلته هنا عن تقي الدين السبكي، وأثار رأيه هذا جدالاً شديدا، وكان والدي وكنت أنا وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه. ولكني أصرح الآن بأنه كان على صواب، وأزيد عليه وجوب إثبات الأهلة بالحساب، في كل الأحوال، إلا لمن استعصى عليه العلم به.
وما كان قولي هذا بدعا من الأقوال: أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين، فإن هذا في الشريعة كثير، يعرفه أهل العلم وغيرهم . ومن أمثلة ذلك في مسألتنا هذه: أن الحديث "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". ففسر العلماء الرواية المجملة "فاقدروا له" بالرواية المفسرة "فأكملوا العدة" ولكن إماماً عظيما من أئمة الشافعية، بل هو إمامهم في وقته، وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج(12) ، جمع بين الروايتين، يجعلهما في حالين (ص15) مختلفتين: أن قوله "فاقدروا له" معناه: قدروه بحسب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله(فأكملوا العدة": خطاب للعامة(13).
فقولي هذا يكاد ينظر إلى قول ابن سريج، إلا أنه جعله خاصا بما إذا غم الشهر فلم يره الراؤون، وجعل حكم الأخذ بالحساب للأقلين، على ما كان في وقته من قلة عدد العارفين به، وعدم الثقة بقولهم وحسابهم ، وبطء وصول الأخبار إلى البلاد الأخرى، إذا ثبت الشهر في بعضها . وأما قولي فإنه يقضي بعموم الأخذ الحساب الدقيق الموثوق به، وعموم ذلك على الناس، بما يسر في هذه الأيام من سرعة وصول الأخبار وذيوعها. ويبقى الاعتماد على الرؤية للأقل النادر، ممن لا يصل إليه الأخبار ، ولا يجد ما يثق به من معرفة الفلك ومنازل الشمس والقمر.(ص16)
ولقد أرى أن قولي هذا أعدل الأقوال، وأقربها إلى الفقه السليم، وإلى الفهم الصحيح للأحاديث الواردة في هذا الباب.
بقيت بعد ذلك مسألة دقيقة، تتفرع أيضا على ماذهبنا إليه، وقد أشرنا إليها في أول كلامنا، وهي مسألة اختلاف المطالع:
فمن المعلوم أن المطالع تختلف باختلاف خطوط الطول وخطوط العرض، وكما يكون هذا في اعتبار الشهر بالرؤية يكون في اعتباره بالحساب. أما الفقهاء المتقدمون فقد اختلفوا في ذلك كما أوضحنا ، بل الظاهر لنا من قول بعض الناقلين أن أكثر الفقهاء لا يعتبرون اختلاف المطالع، كما نقل النووي عن ابن المنذر، مما يفهم منه أنه قول الأئمة الأربعة والليث بن سعد، وإن اختلف أتباعهم فيه بعد ذلك. وكذلك قال القرافي في الفروق(14): "إن المالكية جعلوا رؤية الهلال في بلد من البلاد سبباً لوجوب الصوم على جميع أقطار الأرض، ووافقتهم الحنابلة". ثم رجح القرافي ما يخالف مذهبه، وهو مالكي. فقال: "إذا تقرر الاتفاق على أن أوقات الصلوات تختلف (ص17) باختلال الآفاق، وأن لكل قوم فجرهم وزوا لهم وغير ذلك من الأوقات : فيلزم ذلك في الأهلة، بسبب أن البلاد المشرقية إذا كان الهلال فيها في الشعاع وبقيت الشمس تتحرك مع ا لقمر إلى الجهة الغربية، فما تصل الشمس إلى أفق المغرب إلا وقد خرج الهلال من الشعاع، فيراه أهل المغرب، ولا يراه أهل المشرق. هذا أحد أسباب اختلاف رؤية الهلال، وله أسباب أخر مذكورة في علم الهيئة، لا يليق ذكرها ههنا، إنما ذكرت ما يقرب فهمه. وإذا كان الهلال يختلف باختلاف الآفاق وجب أن يكون لكل قوم رؤيتهم في الأهلة، كما أن لكل قوم فجرهم وغير ذلك من أوقات الصلوات ، وهذا حق ظاهر، وصواب متعين. أما وجوب الصوم على جميع الأقاليم برؤية الهلال في قطر منها فبعيد عن القواعد، والأدلة لم تفند ذلك".
وقد سبقه إلى ذلك الحافظ أبو عمر بن عبد البر، بل ادعى الإجماع على ذلك فيما إذا تباعدت البلاد جدا. والعلامة الشوكاني نقل اختلاف العلماء وأقاويلهم في المسألة(15) ، ثم قال: "والذي (ص18) ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية، واختاره المهدي منهم، وحكاه القر طبي عن شيوخه أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد كلها ، ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول خلال الإجماع، قال: لأنهم قد أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان، كخراسان والأندلس(16). وذلك لأن الإجماع لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة".
والبديهي الذي لا يحتاج إلى دليل: أن أوائل الشهور لا تختلف باختلاف الأقطار أو تباعدها، وإن اختلفت مطالع القمر، فإذا غاب القمر بعد مغيب الشمس فقد دخل الشهر وبدأ، وأما تعليق وجوب العبادات على الرؤية فقد أظهرنا وجه تعليله بعلة منصوصة في السنة الصحيحة ، فهو يدور معها وجوداً وعدماً .
" يتبع مع جميع الحواشي في الحلقة الثانية"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.