حاولت في مقالي السابق «سقوط الإخوان في مصر وتداعياته على منطقة الخليج» أن ألقي بعض الضوء على تداعيات ثورة 30 يونيو وسقوط الاخوان في مصر على منطقة الخليج، وقد تطرقت بشكل سريع الى تداعيات ذلك السقوط على تركيا وذلك في صدد حديثي عن المحور التركي وقلت ان سقوط حكم الاخوان في مصر مثل هزة قوية لحلف تركيا لصالح الدور السعودي والدور الجماعي الخليجي، ثم تحدثت بشكل مقتضب عن تركيا الذي فرض سقوط الاخوان عليها نوعا من العزلة السياسية وانهارت على اثراها الطموحات التركية في لعب دور اقليمي في المنطقة من خلال التحالف مع جماعة الاخوان المسلمين واستلام دور الزعامة في المنطقة وتعزيز نفوذها في اطار ما يسمى ب «العثمانية الجديدة». ولعلي هنا ان اتوسع قليلا في اعادة قراءة السياسة الخارجية التركية بعد سقوط حكم الاخوان في مصر. ويمكن ان الخصها بالتالي: أولا: حاولت تركيا دعم الاخوان المسلمين للوصول الى السلطة في دول الربيع العربي وحاولت هذا القوى الاخذ بالنموذج التركي في الحكم وهو امر كان سوف يجعل من تركيا دولة مركزية وقائدة للعالم العربي الا ان سقوط نظام مرسي ضرب المشروع التركي في الصميم، هذا بالاضافة الى إفشال خطط العدالة والتنمية لدعم تيارات واحزاب الاسلام السياسي للوصول إلى السلطة في بلدان اخرى في المنطقة، لما للتطورات المصرية الأخيرة من تأثيرات سلبية في هذا الصدد. وبالتالي انهارت استراتيجية تركيا في منطقة الشرق الاوسط القائمة على دعم تيارات الاسلام السياسي. ثانيا: حاولت تركيا منذ وصول اردوغان الى الحكم تسويق استراتيجية جديدة في علاقاتها الدولية والتي لخصها أحمد داود أوغلو بعد تعيينه وزيرا للخارجية بنظرية «صفر مشاكل مع الجيران» وبناء روابط اقتصادية وسياسية واجتماعية قوية بين تركيا وجيرانها المباشرين الا ان المفارقة العجيبة ان موجات الربيع العربي كشفت عن تناقض تلك السياسة التي أدت بالنهاية الى صفر جيران بدلا من صفر مشاكل مع الجيران، فلم يبق لدى تركيا اي جيران، فقد توترت علاقاتها مع سوريا وايران وروسيا مع تفجر الصراع في سوريا واضطربت علاقتها كذلك مع بغداد، هذا فضلا عن اهتزاز علاقتها مع معظم دول الخليج بسبب دعم ومساندة حركة الاخوان، وتبني مواقف معادية من الجيش المصري الذي تدعمه اغلب الدول الخليجية التي ترى فيه الدعامة الاخيرة لاستقرار مصر وعودتها للعب دورها الاقليمي. مما ادى في نهاية المطاف الى تنامي عزلة انقرة على المستوى الاقليمي. ثالثا: ان تركيا برهنت على انها وسيط غير نزيه في وساطتها داخل بعض الساحات المحلية والذي كشف عن حقيقة توجهاتها الذي يقوم بالاساس على دعم تيار الاخوان المسلمين في مواجهة بقية التيارات الاسلامية وغير الاسلامية الاخرى، ومع تزايد حدة الاختلاف والتباين السياسي والمجتمعي حيال سياسات بعض التيارات، كحركة الاخوان المسلمين في مصر وتونس كان لهذه المواقف تداعيات مباشرة على الصورة النمطية لتركيا، وصدقية ما تعلنه بشأن اهداف تحركاتها الاقليمية، وذلك بعد ان غدت «دولة طرف» وليست «دولة نموذج». رابعا: تآكل القوة الناعمة التركية (Soft Power) التي كانت تستخدمها تركيا للتمدد شرقا وغربا، ومن هذه الادوات كانت الدراما التركية التي روجت للسياحة في تركيا فبسبب المسلسلات التركية اصحبت تركيا قبلة للسياح العرب. الا انه بسبب سياسات تركيا الاخوانية والتي اصبحت اكثر فجاجة في مصر بعد عزل الرئيس مرسي والتي أثارت الرأي العام العربي وباتت تطالب بمقاطعة المنتجات التركية، سواء كانت من الاعمال الدرامية، او من المنتجات الصناعية، فضلا عن تزايد الحملات العربية لمقاطعة تركيا سياحيا، واتساع نطاق المواقف المعارضة لسياسات تركيا لتشمل باقي الدول الاسلامية. خامسا: تصدع التحالف بين القاهرةوانقرة، فقد شهدت العلاقات المصرية التركية تباعدا غير مسبوق وتطاولات من رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان على مصر وقيادتها المنتخبة وجيشها وشيخ الأزهر، بعد عزل الرئيس الإخوانى محمد مرسي، فقدت على اثرها تركيا مصر كحليف استراتيجي في المدى المنظور، خاصة وأن الفاعلين الرئيسيين في المشهد السياسي المصري عقب سقوط حكم الاخوان (المؤسسة العسكرية، والقوى الثورية) لا يرغب اي منهما في لعب دور الشريك الاستراتيجي لتركيا، مثلما كانت جماعة الاخوان المسلمين. ومن المتوقع ان يؤدي هذا التوتر الحاصل في العلاقة بين القاهرةوانقرة الى انعكاسات اقتصادية سلبية على تركيا. واخيرا فرغم تجاوز السياسة الخارجية التركية بعد ثورة 30 يونيو حدود العقلانية والبراجماتية السياسية بسبب العلاقة الشخصية والايديولوجية التي تجمع اردوغان وجماعته بمرسي وجماعته القائمة على اسس عميقة لحزبين اسلاميين، إلا أن مصالح تركيا الإقليمية تدفع إلى التهدئة فيما ان هيمنة سياسة الرجل الواحد في السنوات الاخيرة اقتضت التصعيد. فأردوغان المهووس بلعب دور البطولة الزائفة على المسرح السياسي العربي منتهزاً غياب الزعامات العربية الوطنية والقومية تقتضي التصعيد. وعليه فبوصلة السياسة الخارجية التركية في الشرق الاوسط في المرحلة المقبلة ستتحدد بناء على الطريقة التي تنتهجها القيادة التركية خلال الفترة المقبلة حيال تطورات الأحداث على الساحة العربية، هل المصالح تغلب الشعارات والايديولوجيا ام العكس؟ * محلل سياسي