تسعى السياسة الخارجية التركية أخيراً إلى مراجعة شاملة وتغيير تدريجي بطيء فرضته أسباب داخلية وخارجية، لكن وجود رجب طيب أردوغان على رأس الحكومة وامتدادات «الدولة العميقة لحزب العدالة والتنمية» داخل مؤسسات الدولة، قد لا يعطي فرصة لتحقيق هذه المراجعة المرجوة. تركز الاهتمام في الشهر الماضي في تركيا على الحملة التي شنتها وسائل إعلام غربية على رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان المعروف بأنه الذراع اليمنى لرئيس الوزراء أردوغان، واتهمته بدعم المتطرفين والمتشددين من المقاتلين في سورية، تحديداً جبهة النصرة وداعش، وامتدت الحملة للكشف عن تسليمه أسماء عشرة إيرانيين يعملون لحساب «موساد» في إيران بعد أن رصدتهم الاستخبارات التركية في اجتماع سري مع رجال «موساد» في تركيا. وازداد الأمر حدة مع تسريب لمخاطبة رسمية للسفير الأميركي في أنقرة ريتشار دوني مع واشنطن يشكو فيها من تصرفات فيدان وسياساته. تداعى وزراء الحزب الحاكم للدفاع عن فيدان – من دون نفي حادثة الجواسيس الإيرانيين التي يبدو أنها جاءت ضرباً لعصفورين بحجر واحد، من ناحية وجهت صفعة لإسرائيل التي حاولت اللعب على أرض تركيا من دون إذن أو تنسيق مع صاحب الأرض، والأمر الثاني هدية لطهران لفتح ثغرة في جدار الشك الذي ارتفع بين البلدين على خلفية الملف السوري. وأثنى على فيدان كل من أردوغان والرئيس عبدالله غول، لكن محللين أتراكاً أشاروا في ما بعد، إلى أن حملة الاتهامات الغربية هذه كانت تحمل في الأساس رسالة إلى أردوغان شخصياً، أو لعلها الرسالة الثانية بعد رسالة تظاهرات واحتجاجات ميدان تقسيم – التي يرفض أردوغان أن يعتبرها تظاهرات عفوية، وإنما يعتبرها رسالة غربية بتنظيم استخباراتي غربي عال المستوى – ومفاد الرسالتين يقضي بضرورة تغيير سياسات أردوغان وحكومته الداخلية والخارجية وتذكيره بأن دوره الإقليمي المدعوم من قبل الغرب قائم في الأساس على دعم الاعتدال الإسلامي وليس التطرف، بعد أن فشل أردوغان في احتواء تنظيمات «الإخوان المسلمين» في المنطقة ودفعها إلى طريق الديموقراطية التعددية، حتى ظهر وكأنها هي – أي التنظيمات «الإخوانية» – من يقود أردوغان ويحدد سياساته في المنطقة. الرسالة بدت قوية وواضحة، وهي أن مغامرات الثورات العربية التي كانت تتجه نحو حكم إسلامي معتدل في المنطقة برعاية تركية، بدأت تخرج عن السيطرة – لأسباب عدة ليس هنا مكان شرحها – وتتحول إلى ملفات تطرف وإرهاب يغزو المنطقة ويتغذى على أرضها، وأنه في إطار سير العملية السياسية الانتقالية في مصر نحو الاستقرار، والتفاهم الروسي - الأميركي على لملمة الملف السوري – في ما يسمى جنيف 2 - في إطار يقدم مكافحة الجماعات المتطرفة على طموح المعارضة ومطالبها، ومع التقارب الإيراني - الأميركي المتسارع الذي يشي بترتيبات إقليمية جديدة، فإن استمرار أنقرة بالظهور في «صورة الداعم والمتبني» لجماعات التطرف في سورية، وجماعة «الإخوان» الرافضة للمصالحة في مصر، سيجعل تركيا خارج الصفقات الإقليمية التي يتم الإعداد لها، بل وربما سيحملها ثمن تلك الصفقات (السؤال حول دعم تركيا الجماعات الراديكالية والمتشددة، بات يحاصر المسؤولين الأتراك أين ما ذهبوا، كما أن الإعلام الغربي الذي يركز أخيراً على هذا الدور التركي، يهمل تماماً مسؤولية الدول الأوروبية في عدم التنسيق مع الاستخبارات التركية في تنبيهها لوصول متطرفين من أوروبا إلى تركيا، فهي تركز على دخول هؤلاء المتشددين من تركيا إلى سورية، لكنها تتجاهل أن هؤلاء يأتون من أوروبا التي تطالب تركيا بإعاقة تحركهم من دون سند قانوني، بينما تدافع هذه الدول عن عدم تنسيقها بأنه لا سند قانوني يمنع سفر هؤلاء المتشددين من أوروبا إلى تركيا!) ناهيك بإدراك الغرب الدور المهم والأساسي لتركيا لضمان سير تلك الصفقات واستقرار المنطقة، ما يستدعي ضرورة انتشال أنقرة من تلك الصورة ودفعها – ولو قسراً – إلى العودة للعب دورها القديم في دعم الاعتدال الإسلامي. إشارات التغيير داخلياً يلفت الانتباه ازدياد أخبار ضبط شحنات أسلحة في طريقها إلى سورية في الإعلام التركي أخيراً، بل إنه تم الإعلان عن ضبط مواد كيماوية كانت في طريقها إلى سورية نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، فيما يعلن الجيش لأول مرة عن استهداف وقصف مواقع لداعش في شمال سورية رداً على وصول قذيفة من هناك إلى الأراضي التركية، والواضح أن الهدف من تمرير هذه الأخبار هو الرد على الاتهامات الغربية بدعم الفصائل المتشددة في سورية، ناهيك عن بناء سور وزرع كاميرات مراقبة على الحدود البرية مع سورية في عدد من النقاط. أما خارجياً، فإن الانفتاح المفاجئ على العراق شكل أهم وأوضح نقطة في مراجعات السياسة الخارجية بالنظر إلى التوقيت، إذ كان بإمكان أنقرة الانتظار إلى ما بعد الانتخابات العراقية من أجل فتح صفحة جديدة مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إن فاز مجدداً، أو لطي صفحة الخلافات وبدء صفحة جديدة مع غيره إن خسر. والتوقيت يفيد المالكي الذي يريد دخول الانتخابات من دون أن تعكر عليه أنقرة أجواء التنافس – كما فعلت في الانتخابات السابقة - وفي المقابل، فإن تركيا لا تستطيع الانتظار حتى الانتخابات العراقية وحسم نتائجها إذ إن مياهاً كثيرة ستجري في النهر حتى ذلك الحين، ولا شك في أن المالكي أو العراق الشيعي - لاحظ الحرص على أن يلتقي وزير الخارجية التركي السيستاني ومقتدى الصدر وأن يوقت زيارته في ذكرى عاشوراء ليزور المراقد الشيعية في بغداد والجنوبالعراقي - سيكون بوابة مهمة لتركيا لإعادة بناء الجسور مع الشيعة في المنطقة (أو مراكز القوى السياسية الداعمه لها)، والجميع ينتظر مشهد لقاء نوري المالكي مع أردوغان في أنقرة قريباً، بعد خلافات بين البلدين تحولت في جزء منها إلى خلاف شخصي بين الرجلين الذين اتهم كل منهما الآخر باتباع سياسة طائفية دموية في المنطقة. لكن الحرص على إجراء هذا اللقاء في أسرع وقت ممكن حتى قبل تجاوز الخلافات العالقة بين البلدين (من اتفاقيات النفط مع كردستان من دون موافقة بغداد، والخلاف على التفاهمات الأمنية التركية مع حزب العمال الكردستاني، والموقف من دعم نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي الذي لم يعد إلى تركيا بعد أن غادرها) يشير إلى أن الحديث عن فتح صفحة جديدة مع العراق يتجاوز إصلاح العلاقات معه إلى مد جسور مع حلفائه وجيرانه، ومحاولة أنقرة الرجوع عن سياسة البروز كزعامة سنّية في المنطقة ومحاولة العودة إلى التوازن السابق في التعامل مع مكونات المنطقة (الخارجية التركية أيضاً تعول على أن تفتح صفقة تبادل المختطفين اللبنانيين الشيعة التسعة على تمهيد الطريق لعودة الاتصال مع حزب الله اللبناني). يضاف إلى كل ذلك – في إطار مؤشرات التغيير - الجولة النشطة التي قام بها داود أوغلو إلى عدد من دول الخليج وزيارته الرياض والتي انتهت – وفق مصادر تركية – إلى الاتفاق على التعاون في الملف السوري مع تحييد الخلاف حول الملف المصري جانباً، والتي نتج منها أيضاً، إعادة أنقرة سفيرها إلى القاهرة. المعوقات كل هذه المؤشرات والمساعي الواضحة لتعديل محور السياسة الخارجية التركية والخروج من صورة من يسعى إلى زعامة طائفية سنّية في المنطقة إلى الاعتدال والتوازن في التعامل مع جميع المكونات في المنطقة، تواجه تحديات ومعوقات، غالبيتها داخلية، قد تعوّق تحقيق الهدف المنشود. أهم هذه العوائق هو أسلوب حكم حزب العدالة والتنمية الحالي الذي شكل دولة داخل الدولة من خلال تجاوز الأجهزة المؤسساتية والاعتماد على أذرع الحزب ورجالاته داخل تلك المؤسسات لتنفيذ سياسة الحزب وليس الدولة، وارتباط كل هؤلاء بمزاجية رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان التي تتحكم فيها أولاً وآخراً الانتخابات في تركيا، سواء البلدية في الشتاء المقبل أو الرئاسية في الصيف. فعلى سبيل المثل لا الحصر، لعبت وكالة أنباء الأناضول الرسمية دوراً مهماً في رسم سياسة تركيا الخارجية والإعلامية تجاه ما حدث وما يحدث في مصر، فمنذ تعيين المستشار الإعلامي السابق لأردوغان على رأس الوكالة وإنشاء الفرع العربي لها، ركزت على دعم الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، وتجاوزت دورها الإعلامي أكثر من مرة حينها، وزاد هذا التجاوز بعد عزل مرسي ليتحول إلى تحريض من خلال بث أخبار مشكوك في صدقيتها وترجمات مغلوطة لتصريحات مسؤولين مصريين تثير أجواء سلبية للغاية لدى الشارع التركي (تصريحات أدلى بها وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي تتم ترجمتها إلى اللغة التركية بتصرف كبير يغير في محتواها ويجعلها تصب في غير معناها، وتمت ذات مرة ترجمة بيان للاتحاد الأوروبي اعتبر الحكومة الانتقالية الحالية في مصر غير شرعية بينما النسخة الإنكليزية للبيان لا تحتوي على ذلك)، وقد تمت مناقشة دور وتأثير وكالة الأنباء الرسمية على آلية اتخاذ القرار في بعض مراكز القيادة، لكن إصرار أردوغان على تعيين رجاله المخلصين فيها – وهم الذين يتفانون في تصوير ما يحدث في مصر وفق نظرة «إخوانية» بحتة، إيماناً منهم بأن هذا يرضي أردوغان ويخدم سياساته – يجعل من الصعب إحداث تغيير إصلاحي في هذه المؤسسة التي تغذي كل وسائل الإعلام التركية، وهنا يكون السؤال قائماً ومشروعاً: كيف يمكن تركيا أن تحقق أي تغيير في سياساتها تجاه مصر، في الوقت الذي تستمر فيه «الأناضول» الرسمية في التحريض على سياسة أخرى تجاه مصر؟ مثال آخر مشابه يمكن الحديث عنه في الملف السوري، إذ يعتمد أردوغان على مصادر معلوماته واتصالاته بالمعارضة السورية على «رجاله المخلصين» الذين تم اختيارهم وفق درجة الولاء أولاً، ودرجة القرابة من تيار «الإخوان المسلمين» ثانياً، وبعيداً من تأثير ذلك في العلاقة بين أنقرة وتيارات الائتلاف والمجلس الوطنيين، فإن هذا الأمر بات يؤثر أيضاً في الوضع الداخلي وسياسة قطع الدعم – الذي تنفي أنقرة وجوده أصلاً – عن بعض التنظيمات الراديكالية والمتطرفة، من ذلك مثلاً، إن حادثة تجنيد «القاعدة» شباباً أتراكاً للقتال في سورية تركزت في منطقة أضي يمان جنوبتركيا أكثر من غيرها، وبالنظر إلى الظروف هناك، نرى أن تعيينات رجال الأمن هناك والتغييرات التي قامت على تعيين أصحاب الولاءات المطلقة لأردوغان من التيار الديني، هي التي غضت البصر عن هذا النشاط المشبوه. وبالحديث مع عدد من المعارضين السوريين والمقاتلين تكتشف القوة السحرية التي تمتلكها بعد المؤسسات الإغاثية الإسلامية التركية القريبة من أردوغان في عبور الحدود وتهريب بعض المواد إلى سورية، على رغم التشديد الأمني الحاصل من الجيش. هنا أيضاً نرى أن الاختراقات في السياسة الجديدة تتم من خلال رجال أردوغان في مختلف المؤسسات الحكومية والمجتمعية. ويلعب رجال الأعمال المقربون من أردوغان دوراً مهماً في توجيه سياساته في ما يتعلق بالبحث عن البترول في كردستان العراق والتجارة معه التي قاربت 8 مليار دولار. كذلك في العراق، فإن التوجهات لفتح صفحة جديدة مع الدولة العراقية وتحسين العلاقات مع المكون الشيعي هناك، لن تعيد العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها كما كانت سابقاً، فالسياسة الخارجية التركية فقدت خلال السنتين الماضيتين أهم وأعز ما كانت تملك وهو الشفافية وثقة الجميع فيها كوسيط محايد وشفاف وغير ذي هدف أو غرض مصلحي، فمهما عادت المياه إلى مجاريها، فسيكون من الصعب لطرفين عراقيين مستقبلاً أن يثقا في الحديث بصراحة ومباشرة إلى أنقرة كوسيط كما كان يحدث سابقاً. باختصار، يمكن القول إن هناك نية لمراجعة شاملة في السياسة الخارجية التركية، لكن يحول دون ذلك أو تعوّقه على الأقل توجهات أردوغان الحالية وشعوره أن بإمكانه بإشارة منه أن يغير ويحول مسار السياسة الخارجية التركية 180 درجة بسرعة ومن خلال بعض التصريحات أو الزيارات فقط، من دون النظر إلى تبعات سياساته في العامين السابقين. وداخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، يصعب تحويل التوجهات. فعندما اعتمدت السياسة الخارجية التركية على المنظمات الشعبية للضغط على إسرائيل لفك الحصار عن غزة في رحلة سفن مرمرة الشهيرة، كانت الحسابات التركية قائمة على إنشاء توتر محسوب ومحدود كان يفترض أن تتحول السفينة إلى مدينة العريش المصرية بعد إحداث الأثر المطلوب، لكن الدافع «الإيماني أو الجهادي» لدى راكبي السفينة دفعهم إلى المواجهة وإكمال المسيرة حتى آخرها، ما انتهى بأزمة ديبلوماسية تركية - إسرائيلية ما زال من الصعب التغلب على آثارها على رغم التعاون الاستخباراتي التركي - الإسرائيلي القائم حالياً. ويرى كثر من المراقبين والمحللين الأتراك أن شخصية أردوغان في سعيه للوصول إلى كرسي الرئاسة من خلال سياسات «ترويجية» وشعبوية (السماح للمحجبات بدخول البرلمان أو منع الاختلاط في السكن الجامعي أو زيارته ديار بكر، واجتماعه هناك مع رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني)، سيكون صعباً عليها إجراء تغييرات حقيقية وجذرية في سياسات حكومته الخارجية ناهيك عن إصلاحات حقيقية داخلية، وهو ما قد يخلق مفارقة غريبة تقول إن الطريق الوحيد لإحداث تغيير حقيقي وجاد وإيجابي في السياسة التركية الخارجية والداخلية لن يكون ممكناً مع وجود أردوغان على رأس الحكومة، وإن السبيل الوحيد لذلك سيكون فقط من خلال صعود أردوغان لمرتبة سياسة أعلى، ألا وهي القصر الرئاسي في انتخابات الصيف المقبل، حيث سيكون مقيداً بصلاحيات شرفية فقط، ما يعطي المجال هنا لرئيس الحكومة المقبل (الذي سيكون من حزب العدالة والتنمية أيضاً حتى عام 2015) لكي يجري عملية التغيير المطلوبة إن هو استطاع الإفلات من تأثير أردوغان الذي سيسعى مثل أستاذه نجم الدين أربكان في السيطرة على الحزب من بعيد، وإلا فإن على تركيا أن تؤجل مشروع التغيير الحقيقي حتى الانتخابات التشريعية المقبلة عام 2015 التي قد تشهد ظهور وجوه جديدة على الساحة أو عودة قوى مؤثرة من جديد.