في الفصل الأخير من دراستي الجامعية حضر عندنا في القاعة دكتور متخصص في التربية والمناهج وطرق التدريس، ودار بيننا حوار عن التعليم والمعلمين، ومن الأشياء التي سألنا إياها: لو كنتَ معلماً وسألك أحد التلاميذ سؤالاً لا تعرف جوابه ماذا تفعل؟، وتباينت أجوبة زملائي حيال السؤال، ولكن الصدمة عندما قال الدكتور التربوي بعد محاولاتنا: (لا تُظهر جهلك أمام التلاميذ، واطلب من السائل أن يبحث عن المعلومة، وفي الحصة القادمة أعطه الجواب الصحيح بعدما تبحث عنه)!!، ودار بيني وبينه اختلاف شديد حول هذا الأسلوب، ولم يفلح أحدنا في إقناع الآخر. الطرق القديمة التي كان يستخدمها معلم الأمس لا تجدي مع طلاب اليوم، والعالم اختلف من حولنا واقتصاد المعرفة هو من يشق طريقه بين المتميزين، والمعلم لم يعد يتميز بمصدريته للمعلومة كما في السابق، ولهذا على المعلم أن يتوقف ويجدد في رؤيته لمنطلق التعامل مع هذا الطالب الجديد. يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: (لا يمكن للمرء أن يحصل على المعرفة إلا بعد أن يتعلم كيف يفكر)، والطالب اليوم لا يحتاج من معلمه المعلومة بل مفتاح المعلومة، والمهمة الحقيقية للمعلم هي تحويل الطالب لباحث عن المعلومة وليس لمتلقٍ لها، فتدريب الطالب على طرق إيجاد المعلومة والتعامل معها هي الحاجة الماسة التي ينتظرها هذا العقل الصغير في عالم يضج بالمعلومات والتواصل. أسلوب التلقين المجرد يهدم الطالب ويحجمه في أصغر صوره، ونحن نحتاج للمعلومة التي تُنجحه في الحياة وليست المعلومة التي تُنجحه في الاختبار، واستخدام المعلومة وطريقة استغلالها أهم من حقنها في رأس هذا التلميذ، فنحن نطمح لطالب مؤهل للحياة العالمية ولا نطمح لطالب مؤهل لوظيفة حكومية، وعدد الفرص النوعية في السوق العالمي أقل من عدد الناس. المعلم الذي يهتم بالإبداع هو سلعة ثمينة، ونحن بحاجة لتعامل غير تقليدي مع المعلومة التقليدية، وحفز الفضول الفكري والمعرفي للطلاب من أسمى ما يقدمه معلم اليوم لإنسان المستقبل، والربط بين معلومتين بتفكير مبدع أفضل من عشر معلومات مجردة. توجيه المعلم تركيزه وعمله نحو المهارات العليا للتفكير، وإدارة المهارات والقدرات للطالب سيقدم لنا خامات قادرة على تجاوز تقصير منظوماتنا المتقهقرة عن سباق التقدم العالمي. المعهد الوطني لتأهيل المعلمين في سنغافورة أدرك ضرورة التغيير، وعمل على إعادة تأهيل المعلم لمهارات القرن الحادي والعشرين بتعزيز ثقافة جديدة بمفردات الابتكار والتفكر وبناء الذات والتواصل والتكنولوجيا والمبادرة والمهارات الاجتماعية. التعليم هو مفتاح التقدم، والمعلم هو كلمة السر، وقالوا قديماً في الصين: (إذا أردت مشروعاً تحصده بعد عام فازرع قمحاً، وإذا أردت مشروعاً تحصده بعد عشرة أعوام فازرع شجرة، وإذا أردت حصاد مائة عام فعلم الشعب)..