رمضان في طفولتنا عالم مدهش، ممتلئ بأجواء الحياة الروحية والإنسانية، لم نكن نوقد الشموع أو الفوانيس كما هو الحال في بعض دول العالم، بل كانت الشموع والفوانيس تضيء من داخل أرواحنا الطرية. كان رمضان وكنا كمن يسير في فلاة مقمرة نغتسل بأشعة بدرها المضيء، ونمرح في ساحة من البهجة والبهاء. في رمضان كان إمام مسجدنا شيخاً استثنائيا، كان شيخاً وقوراً ذا مهابة، يحبه الناس ويقدرونه، والصلاة خلفه لها مزاج جميل، يتوافد عليها الكبير والصغير رجالاً ونساءً. كانت تلاوته "الحدرية" تأخذ بمجامع قلوبنا، وكانت نغمات الصبا تتهدج من قلبه وروحه فتنسكب في أرواحنا كانسكاب الماء في حلوق ظمئه. كان شيخ حارتنا - الذي وعينا على صوته وتلاوته وخطبه - لنا بمثابة الروح لجسد الحارة، فالناس يسألونه ويستشيرونه ويدعونه ليعقد لهم الأنكحة، ويوم دخلت المدرسة أخذنا درساً عن نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) فلم تتشكل صورته في ذهني إلا مرتبطة بصورة شيخ مسجدنا! وكلما أفاض الأستاذ في ذكر كرمه وسماحته وعدله وخلقه عليه السلام تذكرت شيخ مسجدنا. نعم كان شيخنا إماماً وعالماً، لكنه في قمة التواضع، لم أتذكر أنه تكلم يوماً ما في شأن سياسي، أو مشكلة اجتماعية، أو تخبطات حزبية، ولم يكن نهجه أن يحرض على العصاة والمذنبين، ولم يتحدث عن بعض رجال الحارة الذين لا يشهدون الصلوات. بل كانت أحاديثه وخطبه لا تخرج عن التذكير بالله ورحمته وعفوه، والتذكير بهدي النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في تعامله مع الخلق، وكانت مواعظه إيمانية متصلة بالله وبالتفكر في كونه وخلقه. يخرج شيخ مسجدنا من بيته ونحن نلعب الكرة، فيشق الطريق برائحة عطره التي تنبعث من ثيابه وبشته البني الجميل، لكنه لم يشق علينا أو يفرق لعبتنا بعصاه؛ لأنها كانت عصا يتوكأ عليها وليست عصا يضربنا بها. كان يمر بابتسامته ودعواته "الله يصلحكم" ثم يدخل المسجد، ومع هذا الخلق كنا نمتثل ونكف عن اللعب ونستعد للصلاة. في إحدى الليالي سمعنا صوت شيخنا يعلو من مكبر الصوت وينادي: "الصلاة جامعة.. الصلاة جامعة" وكان نداؤه بأسلوب فيه نغم خوفٍ وخشيةٍ فخرجنا من بيوتنا متوافدين للمسجد. وكنت طفلاً مندهشاً من هذه الحالة الغريبة التي نلبي فيها هذه الصلاة في الساعة الحادية عشرة والربع من الليل! وبعض "الشيَّاب" الذين يسيرون معنا كانوا يقولون: "خسوف .. صلاة خسوف! سألت عمي الذي كنت ممسكاً بيده: ما معنى خسوف؟ فقال: خسوف القمر.. قلت كيف: قال يعني القمر مختف، بعدين أكمل لك، دخلنا المسجد وكبر الشيخ وصلينا خلفه صلاة رائعة في هدوئها وخشوعها وطمأنينة أرواحنا المتعلقة برحمة الله. أنهى الشيخ الصلاة، ثم فتح باب الإمام وظل ينظر في السماء! سألت عمي: فيما ينظر؟ فقال ينظر للقمر! كان الشيخ ينظر ملياً في السماء وكنا كحال البدائيين الذين ينتظرون شيئاً! وكانت نظرات الخوف والقلق من المصلين لا يقطعها إلا حوقلة وتهليل بعض الرجال ممن شابت لحاهم واطمأنوا بالإيمان، بينما كنا نحن الأطفال ننتظر ماذا يفعل هذا الشيخ! وما الذي يتلقاه ويعرفه من حال القمر؟ وكيف له أن يعرف شيئاً لا نعرفه نحن؟ هممت أن أسأل عمي سؤالاً طفولياً: هل الشيخ يتحدث مع السماء؟ إلا أن الشيخ عاد وتحدث بحديث كلما تذكرته شعرت بروحي تهتز، وأركاني تتأجج: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، والليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون". ثم ذكر حديثاً نبويا:ً " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" ثم دعا وأمَّنا وانصرفنا بأمن وأمان. لم تكن ذكرياتي الطفولية عن شيخ متخيل، بل كان شيخاً استثنائياً عاش بيننا وعشنا معه. إن الشيخ عبدالعزيز البطي كان نموذجاً للمشايخ القليلين الذين يربطون الناس بربهم وخالقهم. إن الشيخ البطي يعيش أيام شيخوخته وكبر سنه، وهو ملازم بيته منذ سنوات بسبب المرض، وكبر السن، وربما نسيه كثير من الناس، لكن رمضان الكريم يأبى على الذاكرة أن تنسى رجالها الرائعين، فمن حقه علينا أن نستعيد صورته وأخلاقه التي كانت مع الإيمان دون أن تبحث عن متاع الدنيا الزائل.