.. الأرضُ العزيزةُ هي الأرضُ التي نستشعرها بقلوبنا قبل أن تحسَّ بها أقدامُنا.. هي التي يكون لترابها طعمٌ ولونٌ ورائحة يصبغ شخصياتِنا ويتلفّعُ أشكالَنا، ويتحد مع وجدانِنا، قبل أن يكون عنصراً سلوكونيا (زجاجيا) يملأ آلاف آلاف الأميال. أرضُنا العزيزة التي تجعلنا نعرف معنى العِزّةِ، ونتذْوقُ طعمَ العزة، ثم تجعلنا من فرط هذا الاستطعام، وهذه الرفعة الإنسانية، ندافع عنها بكل ما نستطيع، لأننا لم يعد بمقدورنا أن نقبل غيرها بديلا. أما الأرضُ التي نتعود عليها الخضوع والانحناء ومسح الكينونة، هي أرض لا تخصنا، هي أرض لغيرنا ونحن فقط إما نخدمها أو نريق كرامتنا عليها. الأرضُ العزيزة حيت تكون حقوق الفرد عميقة، فلا نفع في أرض تنغرس بها أعمدة البنيان المتطاول خرسانيا، وتبقى خالية من جذور الانتماء والعزة.. الأرض العزيزة هي التي ينبت عليها المرءُ حُرا، وتكون حريته مسألة لا تناقَش. كما أن عُنصرَي الهواء فوقها غير قابلين للنقاش. أرضُنا العزيزة ترابٌ وبحرٌ وسماء، ترابها تنغرس فيه جذور عملنا واجتهادنا ويُرْوَى بعرقِنا لا بعرقٍ جاء من أراض أخرى، وتجري لحمايته دماؤنا لا دماءٌ من أراض أخرى. أرضُنا العزيزة سماها خيرٌ ممطر، يمطر على وديانها وسهولها بكل بقعة بكل ركن، ولا يسيل بشعابٍ ضيّقة ويمتنع عن البراري والسهول. أرضُنا العزيزة بحرُها عريضٌ ممتدٌ أزرقٌ صاف لا تعكره تسربات مخلفات الطائفية والجهوية والخلافات المخترعة في الدين والفكر والصنعة والطبائع. أرضُنا العزيزة، أرضٌ نعرف أننا عليها عابرون أكثر من كوننا مالكين.. الأرض العزيزة تفقد أول شعورنا الاعتزازي وحبنا الأصيل لها متى بدأنا نحسبها بالأمتار للتملك والاستيلاء والتجميد. إننا هنا نأسرها، نعطِّلها الأرضُ العزيزة هي الأرض التي يكون فيها للفقير البسيط والغني والوزير والملك حقوقٌ الإنسان المكفولة في أصل الحق الإنساني بالحرية والكرامة والمعاش وإطلاق الرأي الحر، وحرية الخدمة، وإطلاق القدرات وتعادل الموازين، وتساوي الفرص. الأرض العزيزة أرض لا يتنفس فيها عبيد، ولا تنمو بها فسيلة الجُبْن والخوف والروع، أرضٌ تنبت التهذيب وحسن الضيافة ورقي التعامل والجهر بالرأي الناصح ووضعه في مكانه ووقته الصحيحين، وعدم بلعه تخوفاً فتنبلع معه كل وجاهات الكرامة ومبررات احترام الإنسان لكينونته كإنسان. أرضُنا العزيزة، أرضٌ نعرف أننا عليها عابرون أكثر من كوننا مالكين.. الأرض العزيزة تفقد أول شعورنا الاعتزازي وحبنا الأصيل لها متى بدأنا نحسبها بالأمتار للتملك والاستيلاء والتجميد. إننا هنا نأسرها، نعطِّلها، ولو كانت للأرضِ روحٌ لكانت كعصفورٍ تحبسه بشبكٍ ثم لا ترفده بطعام وشراب.. فيموت، وإني لما أرى أرضا مسوَّرة ومتروكة كما خلقها الله من مليارات السنين وتُجنى منها الأموالُ التي تتعطل وتتجمد كالجلطات في عروق الجسد الاقتصادي، أحزنُ على حبيس لا يموت، والأكثرُ حزناً أنه لا يستطيع أن يموت. فعدم النمو والإعمار شكلٌ من أشكال الموت.. موتٌ دراميٌ يدر الأحزان. تكونُ أرضُنا عزيزة غالية ونامية ومزدهرة عندما نعمل على أرضها، ونسعى للرقي والطموح عليها، وبجَنْي الكسب مما أحل لله لنا فيه الكسب وسعة التحصيل، ويكون هدفُنا النهائي منها ليس النهش منها، وإنما أن ننام مطمئنين راضين قانعين شاكرين حامدين نومة الأبد فيما يغطي رفاتِنا من ترابها. [email protected]