المتسلَِّطُون لا يَطْرِفُ لهم جفن حين يُقْدِمون، من خلال مواعين التنفيذ وآليات البطش التي يسخرونها لمصلحتهم، على سرقة الأنسام والبسمات ونور العين من عباد لله لا يشكَّلون تهديداً يذكر عليهم. وكنت قد رُضْتُ نفسي على التعامل مع كل النازلات التي تستهدفني من عند البشر، باعتبار أن جلدي أضحى «تخيناً»، ولم يعد يؤلمني أن تخرشني أشواك المؤامرات وشَكَّات دبابيس خَبَثِ التسلط. لا أريد أن أعترف بأني قد وهن العظم مني، وبأن تكالب المرض عليَّ سيدفعني إلى تغيير المسار الذي أسلكه، لأتبنى هدفاً غير ما قصدته، وأمقت خاطراً يراودني أحياناً بأني أخوض حرباً خاسرة من أجل رفعة وطن أتشرف بأنه أنجبني وفتح لي آفاق العبور من المحلية إلى العالمية من كل بواباتها، وأقنع نفسي بأني ربما خسرت معركة أو معارك عدة، وهي سُنَّة الحياة الماضية في الناس أجمعين، كبارهم وصغارهم، ساداتٍ ورعية، وقد تبلى منهم الأبدان وينتقلون إلى الرفيق الأعلى من دون أن تنمو البذور التي كدوا حياتهم كلها من أجل غرسها وإنباتها. والموت هو مصيرنا جميعاً، وهو عينُ الحق. بيد أن ما يثير عجبي ودهشتي ليس الضيق الذي يلحق بي من جراء تصرفات المتسلّطين بحقي، في مسعى تتعدد أساليبه، وتتلوى طرقه، وتتغيّر أدواته لحملي على إعادة سيف القلم إلى غمده. لا أفهم بتاتاً كيف يجدون متسعاً لاستقصادي وقد منحتهم الدنيا وغلظة قلوبهم القدرة على اغتصاب ما يريدون نواله، وكيف تصوِّر لهم عقولهم أن من شأن كلمة، عبارة، جملة، مقالة أن تهدد بقاء حاكم، أو تقصَّر عمر نظام متسلّط؟!أعرف أن ذلك الاستهداف نابع من شعور المتسلِّطين بأن كل جهد فكري إنما يهدف إلى توعية المحكومين بحقوقهم المسلوبة، وهو عمل سيؤدي - في المحصلة - إلى حضهم على الثورة. سمها ما شئت: ثورة، تمرداً، عصياناً. لكنك ستسمعها عند أبواق التسلّط: مروقاً، غدراً، خيانة للوطن، استعداءً للأجانب، واستقواءً بالدخلاء، وهي - في نهاية المطاف - «التوصيفات» القديمة نفسها في علب جديدة: تآمر، عدوان، تخريب، تدمير لمكتسبات الشعب! والمعادلة ليست عادلة بتاتاً... رب القلم يشهر هذا السلاح وحده بوجه متسلّطين يستأثرون بالسلطة والمال وترسانة ضخمة من الأسلحة. رب القلم يكافح جورهم وطغيانهم بمقالاته فحسب، ويذهب لينام قرير العين من انعدام همّ وخز الضمير، وسرقة قوت العباد، وتدمير مستقبل الصغار، فيما يجرد له المتسلّطون جيشاً من القوانين الظالمة والقلوب المفطورة على ارتكاب أبشع الجرائم، فهم إن لم يسجنوه أو ينفوه بقوانينهم تلك، لن يرتدعوا عن التخطيط لتصفيته وسحله، إنهم يحشدون كل الموارد المالية والتعبوية لترويج سياساتهم وأكاذيبهم ومخططاتهم وصفقاتهم وجرائمهم الدموية، أما صاحب القلم المستقل الذي لا يسنده حزب ولا طائفة ولا قبيلة فلا يكلّ عن ترديد الآية الكريمة «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»، وحتى لو كان الموتُ غَدْراً مكتوباً عليه لإخراس قلمه وسرقة نعمة الحياة منه، فإن السيف لن يعود إلى جفيره، لأن أفكار «الشهيد» ستبقى حيّة في نفوس المستضعفين المضطهدين الفقراء الذين ظل طوال حياته، وفي كل مقالاته، يفخر بالانتماء إليهم، ويجهد نفسه في البحث عن مخرج يذيقهم طعم انتفاء الحرمان، وانقطاع الذل، واندياح الحلم بوطن بلا أسوار، وهواء خالٍ من الأضغان والنفوس المريضة. صحيح أن كثيرين من رموز جيلنا سلموا الوديعة إلى رب العزة والجلال من دون أن يكلل سعيهم بالنجاح في تحقُّق ما نذروا حياتهم له. وبالأمس القريب رحل الفنان الذي كان «العود» كما دبابة بين يديه، محمد وردي، وتبعه السياسي المفكر المرهف الحس، زعيم الحزب الشيوعي السوداني، محمد إبراهيم نقد، وشاعر الفقراء والبسطاء محمد الحسن سالم حميد... مضوا في سبيل الأولين والآخرين قبل أن تنبت الوردة التي غرسوها في حديقة النضال السوداني من أجل وطن تحكمه الديموقراطية، ويسوده العدل والخُلق السامي النبيل. لكن عزاءنا وعزاءهم أن السودانيين بأطيافهم كافة نهضوا لمواصلة سقيا تربة تلك الأفكار، والاستمرار في استصلاح بقية أرض الحديقة حتى يثمر نضالهم ورداً ونخلاتٍ وأشجاراً، ترتوي جذورها بأفكار أولئك الأعزاء الراحلين، وتطاول أغصانها الأفق حرية ومساواة ووحدة واستلهاماً لتراث العمل الجمعي الجاد من أجل تطوير الوطن وتقدمه. المتسلّطون لا يريدون قلماً يفتح مسامات الوعي لدى الجماهير، إنهم يريدون قلماً يكتب فحسب بحبر النميمة، وفساد التلميع، وفضيحة تزوير الحقيقة. يريدون أقلاماً تكتب لهم كل صباح كم هم عادلون ومُنْجِزُون ومُنْصِفُون وجميلون وأتقياء وأنقياء. ليسوا هم بحاجة إلى أقلام تفجعهم بالحقيقة، وبخطل سياساتهم، وببشاعة ما يرتكبونه من انتهاكات وجرائم بحق الوطن وأبنائه، وهم مستعدون لاستخدام كل أدوات المكر والإجرام لإسكات تلك الأقلام... بالمال يعرضون شراءها... بالهبات يسعون لكسر سِنَنِها... باليد الغليظة يحاولون إراقة حبرها على قارعة الطريق. وأصحاب الأقلام الشريفة، وهم كثر، عدد الرمل والحصي والتراب، يرون أنهم إنما سخَّرتهم الإرادة الإلهية لأداء رسالة نبيلة، وأن تحقيقها ليس رهناً بمناصب يُخدَّرون بها، ولا بدراهم تُكْسَر بها أعينهم، ولا بهراوات تُجلد بها إراداتهم. لقد نبعوا أصلاً من صفوف الفقراء ولن يضيرهم أن يموتوا فقراء، بل أغنياء بتعففهم، وبما تبثه كتاباتهم من أفكار وأحلام ورؤى. تلك لمحات فحسب من حكاية الفئة الشريفة من أرباب القلم مع المتسلّطين. تتكرر على مرّ العصور في كل أرجاء العالم، ويبقى الحق والخير والأخلاق، ويبقى حلمهم بالانتصار على الشر والتسلّط والظلم، وتبقى في نفَسِ كل كلمة تكتبها أقلامهم نبرةُ التحدي بمواجهة المتسلّطين، بجيوشهم وأسلحتهم وطواغيتهم الأمنية، بقلم ومحبرة فحسب... لا، بل بفكرة ينزف بها ذلك القلم. صيحة حق تحضُّ من يصيخون السمع على أن يغيّروا ما بأنفسهم حتى يعينهم الله على تغيير ما هم فيه من حال، وهي حكاية لا تنتهي حتى لو وَهَنَ العظم من رب القلم، ولو ذهب إلى دار الخلود. * صحافي من أسرة «الحياة». [email protected]