بين يدي نموذجان لخطابين يختلفان في التوجه، لكنهما يؤديان إلى نتيجة واحدة، النموذج الأول آتٍ من أوربا القرون الوسطى، والثاني من أوربا القرن العشرين. النص الأول: "نحن المفتش العام والولاة ورجال الشرطة والفرسان والقضاة ووجهاء طليطلة، هذه المدينة الماجدة (...) نقسم بالنصوص المقدسة التي بين أيدينا أن نطارد المارقين وأن نطيح بكل من نشك في هرطقته.." (اللوح الأزرق: رواية للكاتب الفرنسي جيلبرت سينويه). النص الثاني: "ما يعتبره الحزبُ حقيقةً فهو الحقيقة التي لا مراء فيها (...) تلك هي الحقيقة التي يجب أن تتعلمها من جديد يا ونستون (...) ولتتذكر أن الوجهَ سيظل دائما تحت الحذاء، فدائما هنالك الهرطوقي، عدو المجتمع، الذي يمكن قهره وإذلاله المرة تلو الأخرى". ( رواية 1984 للكاتب البريطاني جورج أورويل). بين الخطاب الأول والثاني 500 سنة. وكلاهما محمّلٌ بشحنات أيديولوجية عالية. الأول آتٍ من أقصى اليمين، والثاني من أقصى اليسار، لكن حراسَ الحقيقة متشابهون مهما تباعدت الأزمنة واختلفت التوجهات. الاثنان ينطلقان من رؤية أحادية تزعم امتلاك الحقيقة، والاثنان يحاربان (الهرطقة) وفقا لتعريفها في قاموسيهما الأيديولوجي. الهرطقة أو المروق الذي يشير إليه الخطاب الأول هو كل ما خالف قناعات محاكم التفتيش الإسبانية الموكلة، آنذاك، بتصفية اليهود والبروتستانت والمسلمين بشكل وحشي. أما الهرطقة في الخطاب الثاني فقد تأتي على شكل عمل فني من أعمال بيكاسو، أو منحوتة لهنري مور، أو عمل أدبي لبوريس باسترناك. عن ذلك التوجه الأحادي الرؤية يقتبس الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو فقرة من مقال ينادي كاتبه بالويل والثبور وعظائم الأمور على كل أعمال الهرطقة الفنية البرجوازية، كما يوصي الكاتب بأن "تصنف تلك الأعمال من قبل طبيب نفسي، وليس ناقدا فنيا"، وذلك تمهيدا لإدخال أولئك الفنانين الكبار إلى مصحات عقلية. ثم تأتي خاتمة المقال على هذا النحو: "إن الفن السوفييتي يتطور في طريق الواقعية الاشتراكية الذي حدده بعبقرية جوزيف ستالين".. وهو كلام يثير الضحك، ذلك أن الفن وكل أشكال الإبداع لا تتطور أو تزدهر إلا في مناخ ثقافي حر، ولم يكن ذلك المناخ متاحا آنذاك. بل ساهمت تلك البيئة الطاردة في هجرة المبدعين إلى بيئات أخرى حاضنة. بذر الخطاب الأول الذي احتكر الحقيقة، ونصَّب نفسه قيّما على تفكير الناس زمنا طويلا، بذور القمع والعنف، وقاد إلى صراعات وسلسلة حروب طاحنة امتدت حتى القرن السابع عشر الميلادي، وساهم الخطاب الثاني في قمع الحريات الفردية فكان "الوجه دائما تحت الحذاء"! لكن أوربا بشقيها الغربي والشرقي قد استوعبت الدرس جيدا، فخرجت من تلك المتاهة، وتجاوزت ذلك الخطاب، عندما قبلت بمبدأ التعدد باعتباره شرطا من شروط التعايش. كانت تلك خطوة في اتجاه النضج، وهو الدرس الذي لم تستوعبه بعد كثير من مناطق التأزم والاضطراب التي تضيق بفكرة التنوع، وتعيش وهم التجانس والمطابقة، وبعد، فقد تضمن هذا المقال بعض الأسماء الأجنبية، فهل أنا ملزم بالاعتذار لمن يضيق ذرعا بتلك الأسماء؟ لا أظن.. فالعبرة بالمضمون، وما يعنينا هنا هو الفكرة والفائدة من أي مصدر جاءت. [email protected]