كيف قُدِّر لتلك العصور الوسطى، التي كانت الأصولية المسيحية تمسك من خلالها بتلابيب المجتمع الأوروبي، أن تتزحزح، وأن تحل محلها العصور الحديثة التي تميزت بأنها عصور العقل والفلسفة والعلم وعلوم الإنسان؟ ؟ من أبرز المفاهيم التي رافقت صعود "نجم" الخطاب الصحوي/ الاخواني في بداية التسعينات من القرن الماضي، ذلك المفهوم الذي أطلق عليه أساطين ذلك الخطاب مسمى "الغزو الفكري"، وكانوا يعنون به "نظرياً" تلك العلوم والمعارف والفلسفات (الوافدة) على المجتمع المسلم من الغرب "الكافر". أما "براغماتيا" فقد قصدوا، من وراء اتخاذ ذلك المفهوم يافطة رئيسية لخطابهم، إقصاء كافة الآراء والتوجهات التي لا تتفق مع ما كانوا يريدونه من تسويق النموذج الاخواني/ السروري الثوري بيننا. ومن وراء ستار ذلك المفهوم المغرض، قذفوا حينها كثيرا من رجالات البلد الوطنيين بتهم العمالة والانبطاح في أحضان "الغرب". نتذكر في هذا المجال، ما كان يقوم به الدكتور غازي القصيبي من جهاد لمكافحة هذا العداء والاستعداء الذي كانت تتوسله محاضن الخطاب الاخواني/ السروري التي راج خطابها في تلك الفترة، على خلفية استقبال المملكة للقوات المتعددة الجنسيات لدحر العدوان الصدامي على الكويت، نتذكر جهود القصيبي جيدا من خلال تذكر ما كان يطرحه في زاويته الصحفية (في عين العاصفة)، التي كان يحاول من خلالها تفنيد أسس ذلك الخطاب الرامي حينها إلى شق عصا الوطنية بتفريق المجتمع إلى شيع يلعن بعضها بعضا. لا أزال أتذكر، أنني وجمع ممن بهرهم زعيق ذلك الخطاب الأجوف، لم نحفل بمفهوم أو مصطلح مثلما فعلنا مع مفهوم "الغزو الفكري" الذي كان قاسما مشتركا بين كافة مظاهر الإنتاج "العلمي" لمتعهدي الخطاب الصحوي في تلك الفترة، في اتخاذه مطية لإقصاء الآراء المخالفة، حتى ما كان منها ينطلق من تحت عباءة السلفية التقليدية. فلقد هالنا بريق طرحه من على كافة مناشط الخطاب الصحوي آنذاك. وكان مصدر تلك الهالة والبريق ما كنا نعتقده حينها من "جِدَّة" المفهوم من جهة، واعتقادنا، نتيجة للظاهرة الصوتية الصحويةآنذاك، ب"أصالة" ثقافتنا التي كنا نراها الوحيدة المكتفية بذاتها، والتي لا تقبل أي وافد فكري بحسبانها كاملة غير منقوصة، وصالحة لكل مكان وزمان. وبسبب هذين العاملين الموهمين، فقد أخذنا على عاتقنا (استصحاب) هذا المفهوم الملغوم لتسفيه رأي كل من لا يتقاطع مع أدبيات الخطاب الصحوي حتى ولو كان من الأهل والأقربين، باعتبار أن من لا يتقاطع مع أدبيات ذلك الخطاب فهو لا محالة من المرحبين أو - على الأقل - من المتغاضين عن "الغزو الفكري". والذين كنا نصمهم بأنهم جوقة من "العلمانيين أوالعصرانيين الذين هم من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا ممن يريدون منا أن نضل السبيل"!!. مع انعتاقنا لاحقا من أسر ذلك الخطاب، بعد أن فتحنا نوافذنا مشرعة باتجاه الرأي الآخر الذي أخفاه الخطاب الصحوي تحت عباءة آحاديته ردحا من الزمن، اكتشفنا، بعد أن رهنَّا زهرة عمرنا للمتردية والنطيحة من إنتاجه، أن مصطلح "الغزو الفكري"، الذي كان يتبجح به ذلك الخطاب، ليس ماركة مسجلة له وحده أو لغيره من الخطابات التي تتقاطع معه في الأسس والغايات، بل هو أيديولوجية تتوسلها كل الخطابات الأصولية، على اختلاف مناهجها ومرجعياتها، في حربها ضد الحداثة والمعاصرة وتحرير الإنسان في كل زمان ومكان. ولكي نثبت أن الرهان الصحوي/ الاخواني على إشاعة وهم "الغزو الفكري"، كمصطلح أيديولوجي ضد تحديث المجتمع، ليس جديدا في مجاله، فلا مناص أمامنا من استعراض تجربة الأصولية المسيحية الأوروبية مع ما ألمَّ بها من "غزو فكري"، لنتبين بعد ذلك أن الأصوليات تكاد تكون متحدة في مقاصدها حتى وإن اختلفت فيما تنهل منه من أسس ثقافية. فمن المعلوم، تاريخيا، أن التحقيب الأبيستمولوجي للفكر الغربي يبدأ بالعصور القديمة الممثلة بالعصر الإغريقي والعصور الأولى من العهد الروماني، وكانت عصور ازدهار كبير للفلسفة والعلم، وخاصة الفترة الأثينية ممثلة بالقرون الإغريقية الخمسة الأخيرة قبل الميلاد. ليثَنِّي بعد ذلك بالعصور الوسطى التي تبدأ من سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي وحتى بداية عصر النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر تقريبا، والتي امتدت قرابة ألف سنة تقريبا، وكانت عصور انحطاط وشلل تام للعقل والعلم، وصعود كبير للخرافة وادعاء الكشف والعرفان، وسيطرة الأيديولوجيات الدينية. وقد انزاحت هذه العصور الوسطى عن كاهل الحضارة الغربية بدخول العصور الحديثة اعتبارا من القرن السادس عشر أو السابع عشر التي تأتي في المرتبة الثالثة في التحقيب الأبيستمولوجي الغربي. وقد "تميزت" العصور الوسطى بتغييب كامل للعقل والعقلانية والعلم، مع صعود كبير لنجم الأصولية الدينية المسيحية التي اضطهدت العلماء والمفكرين، وبالجملة، كل من يغرد خارج السرب اللاهوتي الكاثوليكي. كيف قُدِّر لتلك العصور الوسطى، التي كانت الأصولية المسيحية تمسك من خلالها بتلابيب المجتمع الأوروبي، أن تتزحزح، وأن تحل محلها العصور الحديثة التي تميزت بأنها عصور العقل والفلسفة والعلم وعلوم الإنسان؟ الإجابة على هذا السؤال ستجعلنا نعيش ردة الفعل التي أبدتها الأصولية المسيحية ضد عوامل التغيير الثقافية (الوافدة)،التي من خلالها سنكتشف أن موقفها مما اعتبرته غزوا فكريا يريد أن يقوض أهم مرتكزاتها الإيمانية، لا يختلف كثيرا - من حيث المقاصد والمناهج النظرية المستخدمة - عن أية أصولية أخرى مهما اختلفت عنها عقائديا. بدأت الأرض تتحرك من تحت الأصولية المسيحية مع هبوب رياح الفلسفة الأرسطية المغيرة على القارة الأوروبية اعتبارا من بداية القرن الثاني عشر تقريبا، حيث بدأت طلائع هذا "الغزو الفكري"، الذي سيدك قلاع اللاهوت الكنسي، مع هجرة العلم العربي من أسبانيا إلى أصقاع القارة الأوروبية، والذي تُرجم إلى اللاتينية (لغة العلم الأوروبي آنذاك). فعلى وقع طبوله بدأت نذر الصدام المحتوم بين الفكر المسيحي الوثوقي الآحادي الجامد، وبين الفكر العقلاني الاحتمالي المتجدد مع ظهور علم (اللاهوت) الغربي على يد الفيلسوف المسيحي (بييرأبيلار) الذي تتلمذ على تراث الفيلسوف العربي الكبير (ابن باجة) الذي كان - كما يقول المفكر العربي هاشم صالح في كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) - مشهوراً بعقلانيته وتحكيمه للمنطق العلمي والفلسفي في توجهاته الفكرية، مما يعني أن ابن باجة كان أسبق الفلاسفة العرب دخولا إلى ساحة المعترك الأوروبي. ثم توالت الغزوات الفكرية العربية بدخول فكر الفارابي وابن سينا، وأخيرا ابن رشد، الذي كان دخول فلسفته، المتمثلة أساسا في الرجوع إلى أرسطو الحقيقي بتحقيق وشرح كتبه الأصلية بعيدا عما هو منحول عليه من قبل الأفلاطونية المحدثة، عاملاً رئيسيا في غرس بذور العقلانية في أوروبا المسيحية إلى الحد الذي شكلت فيه فلسفته تيارا فلسفيا في أوروبا خلال عصر النهضة، عرف باسم "التيار الرشدي" أو "الرشدية اللاتينية". والسؤال الذي يهمنا هنا هو: كيف استقبل الأصوليون المسيحيون هذه الهجمة "التغريبية" العربية على العقيدة المسيحية؟. يكفي أن نتذكر هنا قرار المجمع الكنسي الفرنسي الذي صدر عام 1210م، والقرار الذي أصدره الكاردينال (روبير دو كورسون) عام 1215اللذيءن قضيا بمنع قراءة كتب أرسطو وكتب شراحه من "الوثنيين و الكفار"، والمقصود بهؤلاء الوثنيين الكفار تحديدا: شراح أرسطو من الفلاسفة العرب كالفارابي والكندي وابن رشد. ونتيجة لتلك القرارات الكنسية، فقد اعتبرت كافة الكنائس المسيحية آنذاك هذه الأفكار العربية الوافدة بمثابة "غزو فكري" يراد به تحطيم عقائد الناشئة، والتالي فقد أوجبت على كافة المسيحيين أن يهبوا لحماية ثقافتهم ودينهم من الهجمة الثقافية "الوافدة" التي تريد النيل من المقدسات والعقائد !!. وكان الخوف من هذا الغزو الفكري الإغريقي/ العربي قد بلغ حدا استنفر معه البابا غريغوريوس التاسع كافة المسيحيين ليشحذوا هممهم في التصدي له قائلا لهم "لن تكون للإيمان أية قيمة إذا كان بحاجة لمساعدة العقل البشري" وكان يقصد بذلك: تلك المناقشات التي بدأت تدور بقوة بين الفلاسفة المسيحيين أنفسهم عن حدود علاقة الإيمان بالعقل، والتي بدأت تثير أسئلة كانت محسوبة على التابو الممنوع الاقتراب من حماه. أسئلة من شاكلة: هل للعقل أن يتخطى حدود النصوص؟ أم أنه ملزم بحدود النص؟ ما العمل فيما إذا تعارضت مبادئ العقل مع ما تفرضه النصوص من واجبات، سواء على مستوى العقائد أم على مستوى السلوك؟. هذه المناقشات والتساؤلات الجديدة كليا على الفضاء المسيحي الأوروبي أثارها تراث ابن رشد المترجم إلى اللاتينية آنذاك، من خلال كتبه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) وكذلك كتابه الآخر الذي حمل مناظرته مع أبي حامد الغزالي المسمى (تهافت التهافت)، والذي فند فيه آراء الغزالي التي ضمَّنها كتابه الذي عكس أيديولوجيته السلجوقية، والذي سماه (تهافت الفلاسفة). يمكن لنا أن نتصور المدى الذي وصل إليه التأثير الرشدي في قلعة الإيمان المسيحي إذا استعرضنا تجربة الفيلسوف المسيحي الكبير توما الإكويني ( 1225- 1274م) والذي استطاع بمهارة أن (يعقلن) المسيحية نسبيا بإيجاد توليفة فلسفية استطاعت إيجاد مصالحة مؤقتة بين الفلسفة الأرسطية والعقيدة المسيحية، تلك التوليفة (المصالحة) التي قررت أن للفلسفة مجالها الخاص، مثلما أن للإيمان المسيحي الذي ينظمه الوحي مجاله الخاص، وبالتالي فما يقرره العقل يجب أن نقبله داخل مجال العقل نفسه فقط، مثلما أن ما يقرره الوحي يجب أن نقبله كما جاء به الوحي داخل مجاله الخاص. وإذاما حصل أي تعارض بين المجالين ولم يكن ثمة مجال لمراجعة الحقيقة الفلسفية نفسها لتتفق مع ما يقرره الوحي، فليس ثمة مناص من تأويل ظاهر النص ليتفق مع الحقيقة الفلسفية. هذه التوليفة الفلسفية التي استطاع من خلالها الإكويني زرع الطمأنينة في قلوب المسيحيين إلى حين، لم تكن في حقيقتها إلا إعادة إنتاج لتوليفة ابن رشد التي قدمها في (فصل المقال). وهذه التوليفة الإكوينية/ الرشدية لاقت صدى طيبا من قبل المسيحيين المعتدلين. أما المتشددون - وعلى رأسهم كرادلة المسيحية الدوغمائيون - فقد اعتبروها تنازلا خطيرا يراد من الإيمان المسيحي أن يقدمه لصالح الفكر "الوثني/ الرشدي". ولذلك فقد اعتبروا ابن رشد زنديقا كافرا وثنيا، كما اعتبروا فلسفته، (وهي بالمناسبة فلسفة بعثت فلسفة أرسطو الحقيقي الذي لا تستطيع المسيحية أن تتواءم معها إلا بالتنازل عن أصول عقيدتها)، أخطر فلسفة أو فكر وفد إلى أوروبا. ولذلك فقد حرمت الكنيسة قراءة كتبه الأصلية أو شروحه على أرسطو، سواء داخل أروقة الجامعات أو في ساحة المناقشات العامة، أوحتى في المناقشات المعزولة. وعبرت عنها ب "الغزو الفكري" الذي يجب أن لا يُتسامح معه بحال. ولكن السفينة الفلسفية والعلمية الوافدة استمرت في جريانها عبر محيط النهوض، غير عابئة بصراخ الأصوليين، لتنتصر نهائيا مع انتصار التنوير في نهاية القرن السابع عشر. ولم يكن من حملها إلى ساحل التنوير الظافر إلا ذلك الفكر الذي قلب المعادلة القروسطية من أساسها بجعل الإنسان لذاته على رأس الهرم وما سواه، من منظومات وفلسفات وعقائد ومذاهب وتشريعات، فليست سوى وسائل لترقيته كغاية. وهو الفكر الذي نعتته الأصولية المسيحية آنذاك بالفكر الوافد أو الغزو الفكري. وهو نفس النعت الذي ما فتئ المتشددون يصنفون به كل رأي لا يتوافق مع أدبياتهم، والذي يحذرون، باستصحاب خطره المزعوم، كل من يتتلمذ على خطابهم من التماس معه، سواء كان محسوبا على الفكر الغربي نفسه، أو كان إنتاجا علميا لمن ليسوا على مذهبنا ممن هم من داخل ديانتنا. ولكن، وكما جرت رياح التنوير بما لم تشتهه الأصولية المسيحية، فستتأنسن ثقافتنا هي الأخرى في النهاية عندما يحاصرها الفكر الإنساني النابع من داخلها بالذات، والذي حمله ذلك الجيل الرائد من فلاسفتنا الأوائل بواسطة أسفارهم النفيسة إلى الضفة الأخرى من المتوسط، والذي أضاء الثقافة المسيحية من داخلها وأجبر تحالف الإقطاع واللاهوت هناك على أن يخلع قبعته احتراما له.