عنوان هذه المقالة.. سؤال قد يبدو غريباً في نظر بعض القراء، ولكن هذا هو حال السياسة والسياسيين، بعضهم يكتب السياسة بما يضيف إليها من منجزات تحسب له لانتمائه السياسي والفكري، وبعضهم تكتبه السياسة بما تمليه عليه من مواقف يكون فيها تابعاً لغيره وليس صانعاً لتلك المواقف، فالسياسة هي التي توجّهه وتكتب تاريخه وتصنع منه بالوناً قابلاً للانفجار في أي وقت، وهذا هو الحال في السياسة، إما صانعاً أو مصنوعاً، ولا منطقة وسطى بين الطرفين، إذ لا يمكن للسياسي أن يعيش على الحياد، وهو إن حاول ركوب هذه الموجة، فسيجرفه في نهاية الأمر أحد التيارين، إما إلى هؤلاء وإما إلى هؤلاء، وكل طرف نقيض الآخر دون جدال، فأين المنطقة الوسطى بين الموجب والسالب. الذين تصنعهم السياسة هم أولئك الذين قفزوا إلى القيادة، نتيجة ظروف طارئة، أو صدفة حدثت في غفلة من التاريخ، أو جيء بهم لتحقيق أهداف معيّنة، وهؤلاء لا حول لهم ولا قوة، فهم يستمدون قوتهم من الذين أوكلوا إليهم مهماتهم القيادية.. الذين يصنعون السياسة هم اولئك الذين يصنعون التاريخ بما يضيفون عليه من منجزات وأعمال يسجّلها لهم التاريخ بمداد الفخر والعزة والكرامة، قادة لبلادهم، أو مسؤولين عن منظمات سياسية، أو حتى مشرفين على جهات بعينها، فالسياسة بمعناها الواسع تعني القيادة الحكيمة في كل مهمة يوكل أمر تنفيذها إلى فرد يُرتجى منه تحقيق النجاح فيها، وهكذا حال القائد المُلهم الذي يتولى أمر العباد والبلاد، فيقودهم إلى طريق النصر والظفر وتحقيق المنجزات الطليعية الهادفة، فيعيش ويعيش من معه في وفاق تام، لأنه قاد سفينة البناء والتطوير إلى بر الأمان، فأدّى الأمانة التي أنيطت به خير أداء، وصان الأمانة التي أسندت إليه على أفضل وجه، مستقلاً في فكره، ملهماً في قيادته، بعيد النظر في التعاطي مع كل الأمور، واضح الهدف الذي يريد الوصول إليه بالإنصاف والعدل والمساواة، والاستفادة من أصحاب الرأي السديد، والمشورة ذات الهدف النبيل، وبذلك يصنع لنفسه تاريخاً من السياسة الواضحة الجلية، بل ويصنع مع أمثاله من القادة ليس تاريخ بلادهم، بل تاريخ العالم، الذي يحتاج السياسي فيه إلى الكثير من الحِكمة، إلى جانب الشجاعة والحزم والحرص على الإصلاح، دون ان يلوث سجله بأي موقف انهزامي، أو قرار مشبوه، هؤلاء هم الذين يصنعون السياسة لهم ولبلادهم وللعالم. أما الذين تصنعهم السياسة فهم أولئك الذين قفزوا إلى القيادة، نتيجة ظروف طارئة، أو صدفة حدثت في غفلة من التاريخ، أو جيء بهم لتحقيق أهداف معينة، وهؤلاء لا حول لهم ولا قوة، فهم يستمدون قوتهم من الذين أوكلوا إليهم مهماتهم القيادية.. هؤلاء هم الذين تصنعهم السياسة، ولكن إلى حين فإذا تحققت الأهداف التي وجدوا من أجلها انتهت صلاحيتهم، كما تنتهي صلاحية البضاعة الفاسدة التي لن تجد لها مكاناً بين البضاعة السليمة، وغالباً ما يكون تواجدهم محدود المدة ثم بعد ذلك لن يلتفت إليهم أحد؛ لأنهم لم يتركوا من المنجزات ما يخلد ذكرهم، والخطورة التي تمثلها هذه القيادات هي أنها تحاول استثمار فترة تواجدها في السلطة لتحقيق الكثير من المكاسب الشخصية، حتى وإن طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وهم في سبيل مصالحهم الذاتية لا يعرفون ذمة ولا يعترفون بضمير، وسيلتهم البطش والظلم والطغيان، وغايتهم الوصول إلى مكاسب أفقها مفتوح، لا تنتهي إلا برحيلهم من الدنيا، ليخلفوا من بعدهم خلفاً أضاعوا الطاعات واتبعوا الشهوات للوصول إلى ما يريدون الوصول إليه بشتى السُّبل والوسائل، والتاريخ الذي صنعهم سوف يزيحهم عندما يوجد البديل، أو توجد أسباب التغيير، فيرحلون عن مناصبهم وربما عن الدنيا غير مأسوف عليهم. وابتلاء التاريخ بمقل هؤلاء القادة الذين لا يراعون ضميراً ولا ذمة، يتمثل في أنهم يزيدون صفحاته سواداً بأفعالهم المعيبة، وسلوكياتهم المشينة والظالمة، ضد شعوبهم والإنسانية. وشواهد التاريخ تبيّن أن المصلحين في السياسة يكتبونها ولا تكتبهم، وهم الذين يخلدهم التاريخ بعظمة اعمالهم، وخلود منجزاتهم، وقدراتهم المميّزة على اختراق جدار المستحيل من أجل الوصول إلى تحقيق الأهداف الكبرى، كما تبيّن وأقصد شواهد التاريخ أن المخرّبين الذين تستعبدهم التبعية، وتتحكّم في مصائرهم قرارات من أتوا بهم إلى السلطة.. هم من تكتبهم السياسة، ثم تشطبهم من ذاكرتها عند أي ظروف تستوجب إزاحتهم عن السلطة، والتاريخ لا يكذب أهله. من يكتبون السياسة هم الأكثر بقاءً ونقاءً في ذاكرة الناس والتاريخ، ومن تكتبهم السياسة، هم الأكثر خروجاً من ساحتها غير مأسوف عليهم. ولن يذكرهم التاريخ، وإن ذكرهم فسيذكر معهم تلك الجرائم التي ارتكبوها، والأعمال السيئة التي قاموا بها، وحينها يطل عليهم الندم، واسع الأشداق ليلتهم ما بقي لهم من سمعة لا يحسدون عليها، ولات ساعة مندم.