حرب الأشكال على كلّ الأصعدة الإبداعية ليست حربا جديدة. فكلّما تمخّضَ الوعي الإنساني عن شكلٍ إبداعيٍّ جديد، جاء هذا الشكلُ يحمل في أحشائه معارضته وكأنّ وجود المعارضة حاجة ضروريّة من أجل التمرّد على الذات ومن أجل النموّ حتى الوصول إلى التجلّي النهائي لهذا الشكل. وعندما نتحدّث عن الشعر بالتحديد، فإنّ التجارب فيه قديمة قِدَمَ وجوده، ولكنَّ المشكلة تحدث عندما لا يكون وعي الشعراء بحجم الوعي الشعريّ الحقيقيّ، حينها يبدأ الانحياز المطلق للشكل على حساب المضمون ونسقط في غواية الجسد على حساب جماليّة الروح. هذا الانحياز قد يأتي نتيجة ردّة فعل تصدر من تيَّار ضدّ آخر، وقد يأتي نتيجة الفهم الخاطئ لمفهوم الشعر القائم في أساسه على الحريّة أمام الكون، وهذه الحرية تبدأ من اختيار الشكل ولا تنتهي عند حدّ. الكتابة الشعرية بقدر ما هي انحياز للمستقبل، لا يمكن لها أن تكون ضدّ الذاكرة إلا بمقدار. لذلك، نرى جميع الشعراء بغضّ النظر عن انتماءاتهم الشعرية، يحاولون أن يبرِّروا وجود الشكل الشعري الذي ينتمون إليه عبر الاتكاء على الماضي. الكتابة الشعرية بقدر ما هي انحياز للمستقبل، لا يمكن لها أن تكون ضدّ الذاكرة إلا بمقدار. لذلك، نرى جميع الشعراء بغضّ النظر عن انتماءاتهم الشعرية، يحاولون أن يبرِّروا وجود الشكل الشعري الذي ينتمون إليه عبر الاتكاء على الماضي واستخلاص نماذج إبداعية من النصوص القديمة تمنح لكتاباتهم هويّة وتؤكد على أنها جزء من السلالة وليست دخيلة عليها. وأنا لا أنكر هنا أنّ لكلّ عصر لغته وقد أقول لغته الشعرية لأننا نتحدث هنا عن الشعر، إلا أنّ هذه اللغة تتجلَّى أكثر في روح الكتابة وليس في شكلها. فالقصيدة العمودية قد تكتب بروح حداثية تشي بانتمائها لعصر الحداثة، مثلما وجدتْ قصيدة النثر جذرا لها في الكتابات الصوفية القديمة، وما اللغة إلا وسيلة للوصول إلى وعيٍ شعريٍّ يتلاءم مع روح العصر. أما حرب الأشكال فقد تنشب نتيجة لضآلة هامش الوجود الشعري الحقيقي حيث كلّ شكل يحاول أن يتشبّث بالحياة فيقتات على الصراعات حينما لا يملك ما يكفي من مقومات الوجود. الشعر الحقيقي قليل جدا في جميع الأشكال، وليس ثمة إلا مجرد كتابات خالية من المضمون الإنساني والوهج المجازي، وهذا ما يجعل (المتشاعرين) فقط من كلّ فريق يرمي الآخر بسهام الاتهامات ويتمادى في عدم قبوله إلى درجة النفي خارج عالم الشعر. أما الشعراء الحقيقيون فإنهم يعملون في صمتٍ صاخبٍ ويمارسون حريَّاتهم أمام هذا العالم دون إصغاء إلى الضجيج الفارغ الذي يدور من حولهم.