عاش الأسرى الفلسطينيون في ظلمات السجون، يكابدون مزاجات السجانين وفظاظة قضبان العنابر، سنين يعدونها ثواني ودقائق وساعات وأياما وأشهرا تأكل من أجسادهم ومهجهم.. وكانوا في مِحنة تاريخية.. ولكنهم عانوا من محنة أخرى، ربما لا تقل اضطهاداً وتعذيباً عن السجون الإسرائيلية، هذه المرة على أيدي ذوي القربى الأشد مضاضة. تخيّلوا سجيناً أمضى سنين يحلم أن يرى ابنته وابنه ويضمهما، وآخر يحلم أن يضمّ والدته الحنون، ووالده الشيخ العجوز وشقيقه.. وما تنجلي الظُّلمات وتقترب لحظة رؤية الأحبة تزداد اللهفة وتتوقد، وتصبح كلُّ دقيقة جبلاً من السنين بكلِّ فظاظتها وقسوتها وناراً أكولا. ولكن للسياسيين رأياً آخر. ولا بد لهم أن «يبيعوا ويشتروا»، كعادتهم ودأبهم، ويتاجرون حتى بأعصاب الأسرى ومشاعرهم. فقد قرّر السياسيون في رام الله أن يؤخروا رؤية الأسرى لذويهم، وأن يبرِّدوا لهفتهم، حتى تكمل بروتوكولات شكلية، لا قيمة لها، ثمنها سنون من العذابات. قرّر السياسيون أنه من «أولى أوليات» الأسرى المفرج عنهم أن يزوروا قبر الرئيس الراحل ياسر عرفات ويضعوا إكيلاً من الزهور على قبره، ويدعون له، ثم يتوجهون إلى «المقاطعة» (قصر الرئاسة في رام الله) ليستمعوا إلى خطاب الرئيس. وهو خطاب طويل أطول من صبر الأسرى، فأمضوا «يشوون» في عذاب اللهفة، طوال خطاب الرئيس، والآخرون الذين رأوا أنه يتوجب على الأسرى أن يستمعوا أولاً ل«معلقاتهم» العظيمة، ثم يمكن أن يفكروا برؤية أبنائهم. أسير أمضى ربع قرنٍ يحلم برؤيته لأبنائه، ماذا سيعقل من خطاب طويل لأبي مازن، خاصة أن السجين أو الأسير تعتريه لحظة تكاثف جنوني للهفة ،حينما يكون على وشك رؤية أحبة، ولا يؤخر اللقاء اللهوف سوى هذا الخطاب. سيكون الخطاب وحده أثقل من كل السنين التي مضت، والتي ستأتي. ومع ذلك خطب أبو مازن وخطب آخرون يستعرضون بلاغاتهم الخطابية، أمام أسرى يغيبون عن كل هذا الاحتفال ويتخيلون فقط وجوه أبنائهم ووالديهم وأشقائهم. أُطلِق الأسرى من القبضة الإسرائيلية ولكنهم وقعوا في قبضة الخطابات العصماء المملّة. للِّه در إسرائيل (في جانب واحد فقط لا غير)، فهي ترينا عجائب أنفسنا، وتكشف نواقصنا التي نراها «بهية».. وتر كم قلت.. إنك البحر ذا المد.. ولألاء الصحارى، إذ تبسط نجد راحة اليد.. وأنا المولع بالمسافات والرحيل، عناقاً لحدّاء السّرى المولعين بأقمار الهزيع.. [email protected]