شهد تاريخ الإنسانية أنواعاً مختلفة من ظلم الإنسان واستعباده, وجعله مع كثير من إخوانه في البشرية كقطيع أغنام لا تملك حياتها ولا تتحكم في مصيرها, لكن الأديان السماوية - والإسلام في مقدمتها - جاءت لتحرر هذا الإنسان, وتجعله مسئولاً تمام المسؤولية في تصرفاته وقناعاته, فلا إكراه أو جبر, ولقد كانت العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم خير مثال ونموذج لرسم صورة الحرية الإنسانية التي عرَّفت الإنسان بالطريق الصحيح والواضح لعبادة الله تعالى دون وسطاء. لقد رسم القرآن الكريم طرق الحرية لهذا الإنسان, وأمره بأن يسير في الأرض, ويتفكر في الملكوت, وجعل الأرض كلها مسجداً وطهوراً, وبرمج حركة التاريخ والأمم السابقة لتكون موطن عبرة وعظة وليست مجالاً للتقليد وفرض السلطة, وكره له أن يقول (إنا وجدنا آباءنا على أمة), بل أراد له أن يكون هو هو وليس أحداً آخر (كل نفس بما كسبت رهينة), كما أنه لا يتحمل أعمال غيره ولا أخطاءهم (ولا تزر وازرة وزرَ أخرى), والأمثلة على تعزيز خطاب الحرية الإنسانية في القرآن الكريم كثيرة, وجدير بالمسلمين أن يعيدوا قراءة هذا الكتاب المقدس ليبحثوا عن أنفسهم وهوياتهم الضائعة. لماذا لم يستطع المسلمون أن يعلنوا حقوق الإنسان بوصفها حقوقاً أصيلة وثابتة في القرآن الكريم, ويجعلوها مشروع بناء ورحمة للعالم؟ لماذا كان الغرب سباقاً في مشروع الإنسان والإنسانية ولم يكن المسلمون كذلك؟ لماذا يجفل كثير من المسلمين ممن ينادي بالحرية والحقوق الإنسانية ويتهمونه بأشنع التهم بينما القرآن الكريم كفل تلك الحرية ؟ إن المسلمين بحاجة لإعادة قراءة القرآن الكريم قراءة حضارية دون وسطاء, وبلا أوصياء حتى تتبدى الإجابات التي غيبتها أوهام التاريخ وأفكار الوصاية والحقيقة الزائفة.لقد انشغل المسلمون طيلة شهر رمضان المبارك بقراءة القرآن الكريم, وتسابقوا في ختمه عشرات الختمات, ولكنهم أغفلوا البعد الحضاري في التعامل مع القرآن الكريم, إن قراءة القرآن تزيد من حسناتك, ولكن التدبر فيه يغير من قناعاتك ويخلخل قداساتك البشرية والاجتماعية, وأغلب المسلمين يقرأون القرآن قراءةً ويهذونه هذاً, ولذلك فمع كثرة قراءتهم له فهم في تخلف وتراجع وسقوط! وليست المشكلة في قراءة القرآن بالطبع, بل المشكلة في إغفال البعد الحضاري لطريقة تلقي القرآن الكريم, لقد كان البعد الإنساني من أهم الجوانب الحضارية التي أرادها القرآن لتكون محفزاً لخلافة الإنسان في الأرض, ولذلك فعندما أسقط القرآن الكريم الوثنية, وفتت العبودية لغير الله فقد جعله حراً, وأسقط عنه تبعات الاستعباد والاستبداد البشري مهما كان, بل كان القرآن الكريم سباقاً في نقد الشخصية الدينية التي تتلبس بلبوس الدين من أجل مطامعها البشرية فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله). إن تراكم الأفكار, والتآليف, وظهور الاتجاهات والمذاهب وهي من تبعات الحركة الثقافية والتطور الفكري الإيجابي, ولكن هذه الأفكار تشكلت لتكون نسقاً ونظاماً مستقلاً بذاته له حراسه والمدافعون عنه والمريدون له, والمستميتون في سبيله, مما جعل هذا التراكم التاريخي والثقافى والفقهي مُغَيِّباً لصورة الإسلام الحقيقي الذي أراد السلام للإنسان من قبل أخيه الإنسان, وتشكلت الخطابات المضادة والمعادية لتدمير الإنسان لأي سبب من أسباب الاختلاف فيما بينهم, وصار هناك إقطاعيون (ملاَّك) لكل ما هو حقيقة تاريخية أو جغرافية أو فقهية أو ثقافية أو, وعززوا من فكر الوصاية على الناس, ونصبوا أنفسهم حراساً وسدنة! بسبب تلك التراكمات التاريخية التي أججت شهوة السلطة والتسلط على الناس, وغيبت خطاب الإسلام الحقيقي الذي جاء على لسان هابيل (لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين), وصدح بها في يوم من الأيام الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ لقد تم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العصر الحديث في الغرب عام 1948م وتحديداً في باريس, وهذا الإعلان هو عبارة عن وثيقة حقوق دولية, جاء في مادتها الأولى: يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق, وقد وُهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء. وجاء في مادته الثانية: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين. وكثيراً مما جاء في هذا الإعلان يكاد يتطابق مع ما في الدين الإسلامي من حقوق وواجبات للإنسان, والسؤال هنا: لماذا لم يستطع المسلمون أن يعلنوا حقوق الإنسان بوصفها حقوقاً أصيلة وثابتة في القرآن الكريم, ويجعلوها مشروع بناء ورحمة للعالم؟ لماذا كان الغرب سباقاً في مشروع الإنسان والإنسانية ولم يكن المسلمون كذلك؟ لماذا يجفل كثير من المسلمين ممن ينادي بالحرية والحقوق الإنسانية ويتهمونه بأشنع التهم بينما القرآن الكريم كفل تلك الحرية ؟ إن المسلمين بحاجة لإعادة قراءة القرآن الكريم قراءة حضارية دون وسطاء, وبلا أوصياء حتى تتبدى الإجابات التي غيبتها أوهام التاريخ وأفكار الوصاية والحقيقة الزائفة. [email protected]