ينقسم الشعراء في تعاطيهم مع النقد إلى فئتين: الفئة الأولى من الشعراء تكتب النقد وتخوض في غماره بشكل مباشر، إضافة إلى كتابتها للشعر بطبيعة الحال، ويقفز إلى الذهن كمثال بارز من هذه الفئة الشاعر الناقد والمفكر العربي أدونيس. أما الفئة الأخرى فتتمثل بأولئك الشعراء الذين يتماهى لديهم النقد ويتوحد مع ما يكتبونه من شعر، وعلى الأرجح أن هذه الفئة من الشعراء أكثر عدداً. وكمثال بارز على تلك الفئة نسترجع اسم الشاعر الكبير الذي رحل عنا مبكرا قبل ثلاثة أعوام، محمود درويش، إذ لم يعرف عنه أنه اشتغل بالنقد بشكل مباشر بل اقتصرت كتاباته على الشعر بشكل أساسي وبعض الكتابات النثرية كرديف لها. غير أن ذلك لا يعني أن ملكة درويش النقدية كانت معطلة، أو أنه كان خالي الوفاض لناحية النقد؛ ففي لقاء صحفي أجري معه ونشر في مجلة دبي الثقافية في أكتوبر 2004 قال ما نصه: «على الشاعر أن يكون ناقدا، وأنا أكتب شعري وأنقد نفسي، أي أنني أبني وأهدم». وهو الأمر الذي يمكن للمتتبع لتجربة درويش الشعرية منذ بداياتها أن يستشفه لما مرت به تجربته من تحولات وتغيرات لافتة؛ فهو ليس من ذلك النوع من الشعراء الذين «ينامون» على ما حققوه من مجد، بل إنه يسعى دائما للبحث عن أراض لم تطرق وعن سماوات لم يحلق فيها أحد قبله. يمكن للمتتبع لتجربة درويش الشعرية منذ بداياتها أن يستشفه لما مرت به تجربته من تحولات وتغيرات لافتة؛ فهو ليس من ذلك النوع من الشعراء الذين «ينامون» على ما حققوه من مجد .ورغم أنه، كما أسلفنا، لم يترك وراءه كتابات نقدية بحتة، إلا أن هناك شذرات نقدية تسربت هنا وهناك في الحوارات التي أجريت معه- وهي كثير- تنم عن حس نقدي عالٍ، ووعيٍ جمالي ناضج بروح العصر الذي كان شعره المتدفق كالنبع السلسال خير شاهد عليهما. في كتاب (محمود درويش- المختلف الحقيقي) نتلمس بعض تلك الشذرات في الحوار المطول الذي أجري معه حيث يقول في إحداها:» « النص الشعري إذا كان لا يحمل تجربة إنسانية، أي إذا كان لا يحمل أنواتا تشكل التقاءً إنسانيا، فلا حاجة للقارئ به، مهما كانت شعريته». وفي مكان آخر يقول: « إذا كان النص الشعري يقول أبعد وأكثر مما كنت تقصد أن تقول، وقولك ما لم تقصد أن تقوله، فهذا هو الشعر».