في الأفلام الأمريكية، وهي أفلام تعكس واقع الحياة هناك، وحين يتحاور اثنان في أمر لا يحتمل اللَّبس أو الغموض، فيسمع أحدهما من صاحبه عبارة «إلى حد ما» sort of أو in a sort فإنه سرعان ما يبادر إلى القول: ماذا تعني ب «إلى حد ما»؟ ويأتي هذا السؤال اعتراضا على موقف ضبابي غير واضح. نحن نستهلك في خطابنا اليومي مفردات كثيرة مشابهة لعبارة إلى «حد ما» مثل: «يعني» و»نشوف» و»ما يمنع» و «تساهيل» و»يصير خير».. وإلى آخر مفردات المنطقة الرمادية التي يفسرها كل فرد بالطريقة التي يراها. هنالك من يرى أن العبارات الفضفاضة المراوغة شكل من أشكال الحكمة. وهو اعتقاد متهافت لمن يستطيع التمييز بين الحكمة والمراوغة، وبين الحكمة والهروب من مواجهة الحقيقة، أو اتخاذ موقف واضح. نحن، كذلك، مجازيون أكثر من اللازم. وإذا كان المجاز حديقة الشعراء الجميلة، فهو لا يصلح للأسواق ولا المكاتب، أو نصوص المعاهدات والعقود أو الوعود. وإذا كان من المتعذر التخلص من المجاز نهائيا في خطابنا اليومي فلنخفف، على الأقل، من كثافته. حتى لا يصبح الأعور «أخلاقيا» كريم عين، والأعمى «فكريا» بصيرا. نحن مجازيون ومولعون بتغيير دلالة الألفاظ ونقلها من معناها إلى معانٍ تلابسها. ومن هنا يأتي «اللَّبْس»، أي اختلاط الأمور، ويأتي الغموض و»نصف الموقف» الذي يتكئ على عبارات تقول كل شيء، ولا تقول شيئا في الوقت نفسه. عبارات تقع في المنطقة الرمادية بين الأبيض والأسود؛ تعطيك القمر بيد والشمس باليد الأخرى، ثم تتركك في ضيافة الغموض ورعاية العتمة. وهي شبيهة بقولك لأحدهم مجاملة «زرنا في أي وقت» إن عبارة «في أي وقت» عبارة فضفاضة لا يمكن أخذها على محمل الجد، لأنها لا تعين وقتا. العبارات الفضفاضة والصمت مترادفان. والمسكوت عنه في طياتهما يجعل المسائل معلقة، والأوضاع الشاذة قائمة. كما أنها لا تجبر كسرا، ولا تقوّم اعوجاجا. ولا تطعم جائعا، أو توظف عاطلا، وإنما تقال للاستهلاك اليومي، فهي زاد من البالونات اللغوية الملونة لمن يقتات على الكلمات. أذكر أنني نقلت، مرة، وفي سياق آخر مختلف الطرفة التالية: بعث رجل بابنه ليدرس الطب إلا أن الابن غير تخصصه فدرس الفلسفة دون علم أبيه. ولما عاد سلمه أبوه مفاتيح عيادة مزودة بأحدث التجهيزات. وبينما هما يتناولان الطعام معا صارح الابن أباه بأنه لم يدرس الطب، وإنما كان يدرس الفلسفة. صعق الأب وسأل ابنه عن طبيعة الفلسفة وجدواها. وكان على المائدة دجاجة واحدة، فبدأ الابن يشرح طبيعة الفلسفة، فقال لأبيه: «يمكنني أن أثبت لك فلسفيا أنه توجد في الصحن دجاجتان وليست دجاجة واحدة» فما كان من الأب الغاضب إلا أن استولى على الدجاجة قائلا: «سآكل أنا هذه الدجاجة، أما أنت فكل الدجاجة الثانية التي ستثبت وجودها». هذه نكتة والنكات لا تعارض، وهي لا تعبر عن طبيعة الفلسفة. لكن المغزى منها أن الأب واقعي ويبحث عن شيء ملموس بدلا من العيش في المنطقة الرمادية من عالم افتراضي. [email protected]