دائماً ما تقفُ القصيدةُ الشجاعةُ أمامَ المرآة قبلَ النزولِ إلى الشارع وذلك كي ترى حقيقتَها وتُشَذِّبَها من جميع الرتوش وتُضفي عليها قسطاً من الأناقة مثلما يؤنِّق البستانيُّ حديقته فيهذِّب قامة الأشجار ويشذّب جدائلها، ولكنَّ بعضَ القصائد تسقط في الإغراء فتنشغلُ بالهوامش أكثر مما ينبغي وتمضي تُسَرِّحُ جدائلَ المُفردات وتُكَحّل عيونَ المعاني وتُقَرّط آذانَ القوافي.. وما إلى غير ذلك من الزينة التقليديّة التي تضعها معظم النساء قبل الخروج من المنزل.. وهل القصيدة إلاَّ امرأةٌ اتّخذتْ شكلَ الحروف؟! حرِّرُوا قصائدَكم من الطلاء وامنحوها ملامِحَكم البهيّة.. إنَّ وردةً طبيعيّةً واحدةً تُغنينا عن حقولٍ شاسعةٍ من الورودِ الاصطناعيّة.. دعوا نَهرَ عواطفكم الجميل يشقُّ مجراهُ بنفسِه . جميلٌ أن تَتَزَيّنَ القصيدة وأن تُرتّبَ فوضى ملامحها، ولا ضيرَ في ممارسة هذه الطقوس التي تؤدّيها قبلَ مُقابلة الناس، ولكنَّ الضيرَ كلَّ الضير أن تُسَرِّحُ جدائلَ المُفردات حتى اجتثاث الشعر من فروته وأن تُكَحّل عيونَ المعاني حدَّ الضبابيَّة أو العماء وأن تُقَرّط آذانَ القوافي حتى تثقب طبلاتها دون وعي.. والخوف كلّ الخوف أن تجورَ على ذاتِها بالألوان وأن تُحاصرَ جسدَها بالجواهر.. والرعب كلَّ الرعب أن تقتلَ نفسَها بالنرجسيَّة وأن تتغزّل في ذاتِها على صيغة رثاءٍ خفيٍّ كما نطقت تلك المرأة على لسان الشاعر محمود درويش (لا أحد يستحقُّ أنوثتي سواي)، حينئذٍ تُصبح القصيدة مسجونةً في المساحيق.. مقيّدةً بالخلاخل.. مغلولةً بالعقود، ثُمَّ تنزل إلى الشارع في صورةٍ زائفة، وربّما كانت هذه الصورة أكثرَ جمالاً ظاهريّاً من الحقيقة ولكنّها فارغةٌ من الصدق.. ثقيلةٌ على الإحساس، لذلك فهي لا تستطيع الطيرانَ في أفق المشاعر، والقصيدة التي لا تطير لا يمكن أن تنتميَ إلاَّ إلى الحجارة، أو ربَّما حالفَها الحظُّ وانتمت إلى فصيلةِ الزواحف تدبُّ وكأنّها محمولةٌ على ظهرِ سُلحَفاة عجوز. أيُّها الشعراءُ.. يا مواقدَ الدفءِ في الأرضِ.. حرِّرُوا قصائدَكم من الطلاء وامنحوها ملامِحَكم البهيّة.. إنَّ وردةً طبيعيّةً واحدةً تُغنينا عن حقولٍ شاسعةٍ من الورودِ الاصطناعيّة.. دعوا نَهرَ عواطفكم الجميل يشقُّ مجراهُ بنفسِه ولا تُمْسِكوا بعنانِ النهر وتلووا بعنقه تجاه الأوهام.. لا تُصادروا حُرّيةَ الماء ورغبتَهُ في الجريانِ النبيل، فالعاطفةُ المُجَرّدة بئرٌ عميقة صافية، وماؤها ملكٌ مشاعٌ للإنسان على رَحْبِهِ وسعتِه، فلا تردموا هذه البئر الإنسانية بمساحيق البهرجة وأحجار المنهجةِ وصخور الأَدْلَجة.