خلق الله الناسَ أحراراً، ونثر أمامهم خيراته ونِعَمَه، فساوى بينهم في المعيشة، لا فرق في ذلك بين مؤمن وكافر، فاليهود والنصارى والمجوس وعبدة البقر وعبَّاد النار وغيرهم كالمسلمين في إباحة خيرات الأرض لهم، فسخَّر لهم الأرض وذلَّلها لهم، قال تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) أي بَسَطها وخَفَضَها ووطَّأَها لهم، فجعلها تحت أقدامهم، لتمكينهم من الانتفاع بجميع ما فيها من المباحات، فالحرِّيَّةُ أصلٌ ثابت في الإنسان، غير أن كثيراً من الأمم السابقة كانوا يستعبدون مَن يَظفرون به مِن غيرهم، وكانوا يتخذون العديد من الوسائل لاستعباد غيرهم، فقد يسير العربي في بلاد فارس أو في بلاد الروم فَيُختَطف ويُستعبَد، وقد يسير الروميُّ في بلاد فارس أو في بلاد العرب فَيُختَطف ويُستعبَد، وقد يسير الإفريقيُّ كذلك في غير بلاده فَيُختَطف ويُستعبَد، وكانت الحروب أحد أسباب الاستعباد، فالأسرى كانوا يُتَّخذون عبيداً المطلوب في القاضي أن يكون مُهاباً، وألا تشوبَ أحكامَه شائبة لدى مَن يأسرهم، وقد يَستدينُ أحدُهم من غيره مالاً ثم يعجز عن سدادِه، فيجعلَ المدينُ نفسَه أجيراً عند الدائن، يَخدمه حتى يكون عنده بمنزلة العبد، وربما باعَه لغيره، وقد يفتقرُ بعض الآباء أو الأمَّهات فيبيع أولاده، وقد يُختَطف الأطفال أو يؤخذ المواليد الذين تتبرأ منهم أمَّهاتهم خشية العار، فيربِّيهم مَن يأخذهم ويجعلهم عبيداً له. وأشهر صور الاستعباد في العصر الحديث، ما قام به الغربيون من اختطافٍ للأفارقة من أفريقيا وأخذهم إلى أمريكا عبيداً لهم، فحين جاء الإسلام ووجد أبواب العبودية كثيرة، أغلق هذه الأبواب كلها، وأباح للإمام في حالةٍ واحدة، وهي حالة الجهاد المشروع -الذي تحقَّقت فيه شروط الجهاد وضوابطه وأخلاقه وآدابه، المنصوص عليها في كتب الفقه- أنْ يُعامِل المعتدين بالمثل، فيسترقَّ مَن يتمَّ أَسْرَه مِنهم، لأن عادتهم استعباد مَن يَأسرونه منَّا، ثم الإنَّ الاسترقاق ليس واجباً، فالإمام مخيَّرٌ بين أن يَمنَّ عليهم ويطلق سراحهم، وإن شاء أذِنَ لهم أنْ يفتدون أنفسهم باسترجاع أسرى المسلمين أو بمالٍ، وإن شاء جعل أسراهم أرقَّاء من باب المعاملة بالمثل، ثم إن الشريعة فتحتْ أبواباً كثيرة للحريَّة، حتى فهمَ الفقهاءُ مِن ذلك أن تحرير العبيد مِن مقاصد الشريعة، فكان مِن قواعدهم «الشَّارِعُ مُتَشَوِّفٌ لِلحُرِّيَّة» ومَن تتبَّع كتب الفقه يعجب من كثرة النصوص المتعلقة بالعبيد، غير أن العجب يزول عندما يكتشفُ أسباب كثرتها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في آخر وصيَّةٍ يوصي بها أصحابة، وهو يودِّعهم الوداع الأخير الذي لن يلقاهم بعده في الدنيا، يوصيهم خيراً بالعبيد، فيقول لهم في خطبة حجة الوداع: (أَرِقَّاءَكم أرقَّاءكم أرقاءكم، أَطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، فإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه، فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم) إن أحكام العبودية المبثوثة في كتب الفقه لم يشرعها الله إلا لرعايةِ أحد معنيين، مصلحة العبيد، أو مصلحة المجتمع، فمن ذلك أنَّا حين نجد أنَّ من شروط القاضي أنْ يكون حرَّاً، فإنه ليس لهذا الشرط مِن معنى إلا رعاية مصلحة الجماعة، ذلك أن المطلوب في القاضي أن يكون مُهاباً، وألا تشوبَ أحكامَه شائبةُ تَخوُّفٍ مِن أحد الخصمين أو مَيلٌ إلى أحدهما، وكل هذه المعاني قد تعرِضُ للعبد فيَحِيْف في حكمه، فناسبَ أن تتشدَّد الشريعةُ في اشتراط أوصافٍ تحمي القاضي مِن أيِّ شيءٍ يشوِّشُ ذهنه، وكثيرٌ من الأحكام تَرمي لمن تأمَّلها لتحقيق هذا المعنى. وأما رعاية مصلحة العبد فكثيرةٌ جداً كذلك، وأظهرُها تعدُّد أسباب الكفَّارات وتنوُّعها، حتى قال الشيخ الإمامُ تقيُّ الدين السُّبكي: (الشارع مُتشوِّفٌ إلى تحصيل الحريَّة ما أمكن، فنُعتِقُ القريبَ على قريبه، ونُنَزِّلُه في أبواب الكفارات في أوَّلَ الدرجات، ونَضرب صفحاً عن إيجاب الصوم على ذي الميسرة العظمَى، وإن كان الصوم أشقَّ عليه، وما ذلك إلا تَشوُّفاً إلى تحصيل العِتق كيف قُدِّرَ الأمر) ومن ذلك أن مَن رَهَنَ شيئاً لَمْ يَجُزْ له بيعُه ولا التبرُّع به، وإنما يجوز لك التصرَّف في المرهون إذا دفعتَ الدَّين وفكَكْتَ الرَّهن، لكن الفقهاء استثنَوْا العبدَ، فإذا كان العبدُ مرهوناً، لم يَجُزْ للرَّاهن بيعَ العبد، لئلا تفوت مصلحةُ المرتَهِن، لكن يجوز للراهن أنْ يُعتقه، فيُصيرُ حرَّاً إذا أعتقه الرَّاهن ولو كان مرهوناً بيد المرتَهِن، وما ذلك إلا لأن مصلحة تحرير الإنسان مقدَّمةٌ على مصلحة المرتَهِن، وفي أحكام العبوديَّة من المعاني السامية الكثير لو تركت للقلم البيان. [email protected]