بدافع عقلي أحيانا ومصلحي في احيان أخرى يسعى الانسان جادا وراء ترميم الاشياء التي بحوزته، فيعمد الى ترميم منزله بين الفينة والاخرى اذا ظهرت عليه بعض التشققات او الاهتراء، وبنفس الدافع ينطلق لصيانة سيارته واجهزته الاخرى حين يشعر بخلل حصل فيها واحيانا لمجرد الحفظ. لقد تعددت مهنة الصيانة وتشعبت واصبحت مهمة ومفيدة لكل شيء فهناك صيانة التربة، وصيانة المعادن، وصيانة الاحراش والغابات، وصيانة المراعي، وصيانة المياه، وصيانة الحياة الفطرية، وصيانة الطاقة. لقد تنبه الانسان الى ضرورة صيانة كل شيء وتقويمه وتجديده وحفظه عن العطب، لكنه غفل عن صيانة المجتمع، فلم ينشئ لجانا لصيانته، ولم يؤسس ورشا لترميمه واصلاح خلافاته ونزاعاته، وهو ما نصطلح عليه (لجان المساعي الحميدة)، او لجان اصلاح ذات البين، وهو التعبير المتداول في لسان القرآن الكريم والروايات الشريفة. أدت هذه الغفلة بطبيعة الحال الى ان يقام بهذا الدور بطريقة فردية أدت ازدياد مطرد في حالات النزاع والخصام المستفحل. لا مفر من المأسسة: اذا اردنا آلية ناجحة تساهم في لم الشمل ورأب الصدع بين افراد المجتمع، فلا محيص لنا ولا مفر عن المأسسة والتأطير، فالعمل الفردي انقرض زمن تأثيره الواسع، واصبح مع اهميته محدود التأثير، كما ان الكم الهائل من القضايا والنزاعات بين ابناء المجتمع تفوق قدرة الافراد علىاحتوائها ومعالجتها، ناهيك عن تنوع الخصومات وتعدد مجالاتها، وتغير نمط الحياة من النمط البسيط الى هذا الوضع المعقد في العلاقات واختلاف المصالح، مما يعني مزيدا من الاحتكاك والتوتر السلبي.ولو افترضنا جدلا امكانية المعالجة الفردية لنزاعات الافراد الشخصية، فهل ينهض هذا الجهد الفردي في معالجة النزاعات التي تنشأ بين التجمعات والكيانات والانتماءات والتوجهات المختلفة؟ هل سيتمكن الجهد الفردي من اخماد صراع يدار بشكل جماعي منظم ومن خلال اوامر وآليات ليست ظاهرة في اغلب الاحيان؟ اعتقد ان هذه الاسئلة تحمل اجاباتها معها، اذ ان العمل الفردي قاصر عن مواجهة زوابع التكتلات، وثنيها عن منوياتها السلبية او احتواء حالات الغضب والهيجان التي تعصف بها. يمكننا هنا ان نؤكد بعض ما يمكن كسبه من هذه اللجان: 1 توفر اللجان مستوى عاليا من الاستشارة وانضاج الحلول المقترحة، لحالات الشقاق والخصام الاجتماعي، فالمجتمع المعاصر مليء بالعقد والتحولات السريعة في علاقاته، لقد غادرته البساطة التي اتسمت بها مجتمعاتنا الى وقت قريب، وحينها لم تكن النزاعات سوى على امور محدودة وبسيطة يمكن للافراد تشخيصها واختيار الحلول اللازمة لها ولملمتها بطريقة سريعة، فلم تكن هناك خصومات ذات شأن كبير بين افراد المجتمع لان التحولات كانت بطيئة ومقبولة، فلم تكن الزوجة على سبيل المثال في وضعها السيادي الحالي الذي يمكنها من الرفض والقبول لاراء الزوج، بل كانت تتلقى وتسمع وتخدم، ولم تكن مشاكل العمال واصحاب المهن سوى توترات يمكن لجمها ببعض الارشاد والتوجيه الاخلاقي، والأمر الاكثر اهمية ان المجتمع لم يمر بحقبة من التحازب كما هو عليه اليوم. فالوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي دفع بافراده الى تكتلات وتجمعات ومدارس وتيارات تختلف آراؤها واساليبها وقراءاتها لمجريات الامور، وتبعا لذلك قد تختلف مصالحها وتشخيصاتها للحلول المقترحة مما هيأ ارضية خصبة لصراعات لم يعرفها المجتمع من قبل وبهذا الشكل الواسع في شرائحه وشارعه العام، وعلى اي تقدير لاغنى عن الحالة الاستشارية في المعالجة لانها الطريق الامثل لادراك العمق الحقيقي للقضايا الظاهرة والخصومات القائمة، وقد قال الامام علي رضي الله عنه : (وترى قفاك بجمع امرأتين) وهي الأمان عن رغبة التسرع والبديل عن الارتجالية. 2 لمصلحة المجتمع ورعاية للشأن العام قد تحتاج بعض حالات العداء والخلاف الاجتماعي المستعصية او المندفعة بالهوى والتعصب الى ان تعيد النظر في موقفها او تراجع اساليبها النزاعية الحادة مع الآخرين تمهيدا للموافقة والملاءمة بين الاطراف، ولايبدو ان جهد الفرد وصوته يمكنه ان يشكل زخما ضاغطا ودافعا نحو الاصلاح مع حفظنا لهذا الدور وتقديره اذا اخذنا في اعتبارنا الصمت الاجتماعي المطبق والمغري بان يسرح الانسان ويشطح دون رقيب او حسيب او معترض. فصوت الفرد هنا لن يشكل ظاهرة ولن يؤخذ مؤثرا اذا قورن بعدم الاكتراث العام. وما يشكل ظاهرة تقابل الصمت وتوقف النزاع عند حد معين هو شعور المتنازعين بالرفض الجماعي، والتكاتف المجتمعي، وتوحد الجهود الضاغطة، فالنكير العام او ما يقوم مقامه كاللجان والمؤسسات هو وحده القادر على ايجاد التوازن والمعادلة للصمت وعدم الاكتراث، وهو القادر ايضا على ايجاد ضغط محسوس موجه للتيارات والجماعات وكياناتها المختلفة، لأن البحر الهادر من الافراد الذي تسبح فيه تلك التيارات والتوجهات لايتيح لها سماع هتاف الافراد ولا الالتفات لنداءاتهم، وحينها لابد من صوت وفعل وضغط يتمكن من ولوج هذه المحيطات بسفن ثقيلة وكبيرة تقوى على مقاومة الموج وشق الطريق لاحداث التأثير المطلوب والوصول الى صاحب القرار ومحاورته بالحسنى من موقع قوي يخشى تأثيره ويعلم قدرته على ذلك. 3 في حال المأسسة سيكون وصول القضايا الخلافية والنزاعية أبكر واسرع، لأن المؤسسة المعنية ستعلن عن نفسها وتوفر للناس عناوينها وتسهل طرق الوصول اليها، ووصول النزاعات في بداياتها يحد من تشعب المشكلة ويحصر الدائرة المتورطة فيها، ويضبط السلوك الانفعالي للمتنازعين وحينها يكون الامل اوفر حظا في مسعى علاجها والتصدي لها.