هناك لحظات مناقبية ومواقف نبيلة لا يحجبها الزمان ولا تتحجم في دائرة وحدود أمة من الأمم فقد تجلى من بعيد ومن أعماق الزمن الغابر ذلك الموقف الجميل الذي يفسر لنا شيئا من المراوغة في تقلد المناصب حين كان الفيلسوف (ديوجين ) يغسل العدس لكي يسد جوعه !! فرآه أثناء ذلك زميله الفيلسوف (اريسيتبوس) الذي توصل إلى مقدار من حياة الترف والراحة بفضل تودده وتملقه (أصحاب الجاه) فقال الفيلسوف (اريسيتبوس ) لزميله بسخرية : لو أنك تتعلم كيف (تتملق) اولئك لما كان عليك أن تعيش على غذاء تافه مثل العدس !! فأجابه (ديوجين) باستصغار وازدراء : ولو أنك تعلمت أن تعيش على غذاء مثل العدس لما احتجت قط إلى تملقهم وبيع كرامتك!! وكرمنا بني آدم . حب المناصب تقلد المناصب تارة يكون وسيلة للعطاء وخدمة الوطن والمجتمع وتارة أخرى يكون بمثابة حب للوجاهة وتضخم في الذات ف(حب المناصب ) كظاهرة سلوكية لها أبعاد متعددة وصور متفاوتة وعليه لا يجب أن نندهش إذا شاهدنا في الانتخابات أن (بعض) الشخصيات ذهبت لترشيح نفسها وهي من الذوات المغمورة الهامشية التي ليس لها صلة بخدمة الضعفاء والفقراء من الناس ولا تعلم بحاجات المجتمع ، فضلاً عن عدم أهليتها وكفاءتها ! ، كما أن هناك شخصيات ذات قدرات عالية تحتجب تواضعاً وتعففاً وتتوارى عن الأنظار لكي تمارس دورها الإنساني والوطني خلف الكواليس !! ونقول:لا تثريب على أمثال هؤلأ أن يتقدموا فالمجتمع والوطن بحاجة ماسة لعطائهم . وتقلد المناصب من المسائل التي تحتمل وجهتي نظر وكل منهما تبدو عقلانية ومنطقية وليس أدل من الماء مثالاً على مسألة وجود احتمالين في التعليل والنتيجة فقد شبه العرب اصطناع المعروف إلى الكرام واللئام بماء المطر يشرب منه الصدف فيعقب لؤلؤاً وتشرب منه الأفاعي فيعقب سماً ! ، والجاحظ جسّد لنا أحد الأمثلة الواضحة على إشكالية الاحتمالين عند ما دافع عن ( الكذب ) وقال إن الناس يظلمونه بتناسي مناقبه وتذكر مثالبه ، ويحابون الصدق بتذكر منافعه وتناسي مضاره ولو كان الجاحظ من الأحياء لتسابقت إليه الشركات التجارية هذه الأيام لكي تبرم معه عقوداً ليس بهدف الترويج لفكرة ( الكذب الأبيض ) بل للمشاركة في الحملات الانتخابية وتلميع المرشحين. الانتهازية المعاصرة تنتشر هذه الأيام موجة جديدة مشجعة لإحياء هذا (الفن) سلوك (المراوغة) على حساب الكفاءة ونطالع في ذلك الدراسة التي قام بها الباحث (رون ديليوج) أستاذ علم النفس والذي يؤكد فيه نجاح هذا الأسلوب وعلى الأخص في حالة الأداء الوظيفي الضعيف ، ويذهب الباحث (رديك مارلو ) والذي علق على هذه الظاهرة ووصفها بأنها تاريخية ومستمرة حيث يذكر انه قد شاع في الحرب العالمية الثانية مصطلح يصف شريحة المراوغين ( أصحاب الأنوف البنية) فكان (التملق) ظاهرة في المؤسسات العسكرية خصوصاً بين ضباط ذوي الرتب العليا وضباط الصف ؟ ويضيف إن المنظمات الإدارية الأمريكية تنتشر بينها مصطلحات مشابهة مثل (لاعقو الأحذية ) ومصطلح (مقشرو التفاح) وجميع هذه التعبيرات هي لغة متداولة لفئة من المنظفين يعتقدون أن العمل بصورة فاعلة لا يكفي؟؟ بل أن الفرد بحاجة إلى مهارة (لعق الأحذية) حتى يقتنص الترقيات والعلاوات ويفوز في الانتخابات . الثقافة الانتخابية عندما يكون هناك وعي انتخابي سوف يكون من السهل على المواطن الاختيار بين المتنافسين خصوصاً عندما يصر المواطن الواعي على وجود برنامج انتخابي يطرحه كل مرشح بحيث يدرك الفرق عندما تتقارب البرامج وتعابيرها اللفظية؟ ومن ثم يمنح صوته الانتخابي الثمين بعد أن يسأل نفسه بعض الأسئلة: لماذا يعطي ثقته لبعض المرشحين ؟ ولماذا يرفض البقية وبأي معيار ؟ وهل اختياره يجعله يهرب من تأثير ضغوط عديدة أخرى ، كالأصدقاء وتبعات الحملة الانتخابية؟ وهل حكم ضميره وشعوره الوطني؟ وهل كلف نفسه قراءة البرنامج الانتخابي ؟ وهل يعي أن مشاركة المسجلين في لانتخابات هي أحد المعايير الأساسية التي تتحكم في قياس مدى المشاركة الشعبية؟ نعم هناك نتائج ايجابية بعيدة المدى للمشاركة وهي تتقاطع مع القيم التي بشر بها الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما دعا إلى (كلمة سواء) في ألا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا!! تلك القيم هي التي أوصلت البشرية إلى الممارسات الديمقراطية المعاصرة أي أن يكون للناس نفس الحقوق والواجبات في مجتمع أفقي!. فالمشاركة هيئت لنا تاريخيا وتراكميا أن نشاهد الرئيس الأمريكي (كلينتون) وهو يساق إلى محكمة التأديب أمام شاشات التلفزيون التي رآها مليارات من البشر!! كما يمكننا ايضا أن نستنتج معادلة بسيطة في اختيار الأشخاص (المرشحين) حددها القرآن الكريم سلفا في صفتين اثنتين: ( الكفاءة + الإخلاص ) { ان خير من استأجرت القوي الأمين }. وحتى لا نرهق ذهن القارئ نختم بتذكير ودي وطريف : وهو ألا ننسى أن هناك من يملك المال دون الكفاءة وهناك من يملك حملة انتخابية متميزة(ماكياج إعلامي) فقط! وهناك من يدير الفرص لصالحة كما فعل ( برنارد شو) فقد كان (برنارد شو) في أحدى القرى يلقي خطاباً انتخابياً يؤيد فيه حزب العمال وقد ختم خطابه بقوله :هل هناك من أحد بعد كل هذا يعترض على تفوق وأفضلية حزب العمال على حزب المحافظين ؟ وفي تلك اللحظة نهق حمار فضحك الحاضرون لكن (برنارد شو) أستغل الفرصة وصاح في الجمهور : هل رأيتم لقد تأكد للجميع أنه لن يعترض على ذلك إلا حمار!.