لو ان باحثاً متخصصاً في تحليل الخطاب عكف على التدقيق فيما تنشره الصحف العربية من تعليقات في الشأن العام، لأفزعه تنامي مؤشرات التراجع والانفلات فيها، ولاكتشف أن بعض تلك التعليقات لم تكتف بتجاوز الخطوط الحمراء، ولكنها أصبحت أيضاً تنطلق من موقف "الضد" لاستحقاقات الموقف الوطني والقومي. (1) أفهم مثلاً ان يكون المرء مفتوناً بالولايات المتحدة لكنني لم افهم أن يعتبر فوز الرئيس بوش انتصاراً شخصياً له ولجماعته، وسبباً للشماتة في العرب، حين فضلوا عليه منافسه جون كيري، ليس حباً في الاخير ولكن كراهية ونفوراً من الأول. وقد كنت واحداً من هؤلاء، اذ قلت قبل اسبوعين ان كيري ربما كان "أهون الشرين". ولم افهم أيضاً ان يذهب احدهم الى حد تقريع العرب بسبب الهزيمة التي منوا بها، والسخرية منهم لانهم سيقضون السنوات الاربع القادمة في "الولولة" حزناً وحسرة على سوء حظهم، والتعبير لاحدهم وليس من عندي. ما لاحظته في تلك الكتابات ان اصحابها اعتبروا انفسهم كياناً مختلفاً عنا، رغم انهم يعيشون بين ظهرانينا. بحيث لم يعد الامر مجرد موالاة للولايات المتحدة ورئيسها، وانما غدا انخلاعاً وجدانياً من محيطنا ومفاصلة معنا، وذوبانا في الاخر البعيد. وهو ما ذكرني بزميل صحفي من نفس العجينة انحاز في السابق الى الصرب ضد المسلمين البوسنويين، لدرجة انه حين كان يتحدث عن مدينة او مطار استولى عليه الصرب اثناء الحرب، كان يقول "اننا كسبنا" كذا او كذا، و"تقدمنا" في هذا الموقع او ذاك! اخواننا هؤلاء نصبوا انفسهم مدافعين علنيين عن السياسات الامريكية. ومبشرين ببوش "الجديد"، الذي بدأ ولايته بذبح الفلوجة. وفي هذا السياق فانهم ما برحوا يفاخرون بالديمقراطية المغشوشة التي اقامها الامريكيون في افغانستان بعد اسقاط نظام طالبان، وتلك الموعودة التي سترفرف على ربوع العراق مع بواكير العام الجديد. (جنباًَ الى جنب مع 14 قاعدة عسكرية امريكية يجرى بناؤها) في ترديد ببغائي لدعاوى "صقور" الادارة الامريكية. وهم الذين يروجون للزعم بأن مشكلة العراق الآن تكمن في الارهابيين "الاجانب" الذين لا يريدون للعراق ان يكون ديمقراطياً وحراً. والارهابيون في نظرهم هم جماعات مقاومة الاحتلال، اما الالحاح على انهم اجانب فهو يعكس إصراراً على ان العراقيين جميعاً مرحبون بالاحتلال وسعداء به. اما الرافضون له فهم وافدون من دول الجوار. وتكمن هنا مفارقة من شقين يحرص هؤلاء على تجاهلهما. الاول ان أعلى صوت داع الى المقاومة في العراق هو هيئة علماء المسلمين، واعضاؤها كلهم عراقيون من أهل السنة، وليس بينهم "متسلل" واحد. من ناحية ثانية فانه حتى اذا كان هناك متطوعون عرب من خارج البلاد، فانهم يظلون اقرب الى العراقيين من القوات الامريكيةالمحتلة وتلك متعددة الجنسية التي استجلبتها. على الاقل فانهم جاءوا مؤازرين ولوجه الله، وليسوا غزاة او مرتزقة. إن الانسان يشعر بالخجل والخزي حين يقرأ كلام اولئك النفر من الكتاب العرب في هجاء المقاومة وامتداح المخلِّصين الامريكيين، في حين يطالع احتجاج صحفي بريطاني - باتريك سيل - على مسلك الامريكيين في الفلوجة، الذي قال فيه: بأي حق يخلي الامريكيون مدينة غير امريكية من معظم سكانها ويحولونها الى ركام. ويقتلون من بقي فيها على قيد الحياة. أية بربرية هذه؟ - (الحياة اللندنية - 21/11). (2) خذ مثلا ما نشر تعليقاً على اطلاق حزب الله في لبنان طائرة بدون طيار، حلقت فوق الاراضي الاسرائيلية. وهو الحدث الذي تلقيناه في حينه باعتباره رسالة تحذير لاسرائيل، واعلاناً عن قدرة الحزب الذي يقف رجاله في الجنوب حراساً لحدود وطنهم. لكن البعض ساءه ذلك، وابدى امتعاضه من ذلك التطور المهم على الجبهة اللبنانية، فاعتبر الحدث "حماقة وتهريجاً"، وعدواناً صارخاً على سيادة الدولة اللبنانية، وذهب الى حد الزعم بأن من شأنه فتح الابواب لسباق التسلح بين القوى السياسية اللبنانية، بعد اختلال التوازن لصالح حزب الله. ولم يخل الامر من غمز في ايران التي قيل ان لها دوراً في تزويد الحزب بتلك الطائرة المتطورة. يلفت النظر إلى ان التعليق جاء من خارج لبنان، كما ان حزب الله، اعتبر بدوره غير مقدر للمسئولية، وغافلاً عن التداعيات التي يمكن ان تترتب على "الخطوة الحمقاء" وغير المحسوبة التي ارتكبها. وكما تم التحريض على العلماء، امتلأ التعليق بتحريض الدولة اللبنانية على حزب الله، حيث وصفت الدولة بانها في "حرج فظيع"، وان ما جرى نال من سيادتها فضلاً عن هيبتها. الطريف في الامر ان التعليق وهو يبدي غيرة مصطنعة على سيادة لبنان وتوازن القوى السياسية فيه، لم يشر الى تحليق الطيران الاسرائيلي المستمر في الاجواء اللبنانية. وتجاهل تماماً خصوصية الحالة اللبنانية، والتوافق الضمني القائم على التفهم والاحترام المتبادل بين حزب الله والسلطة اللبنانية، وهو ما يلحظه أي مراقب منصف لطبيعة تلك العلاقة. هذا الخطاب البائس الذي يتباكى على سيادة الدولة اللبنانية، ويصطنع غيرة على هيبة الدولة بأكثر من رموز الدولة انفسهم، يبطن في حقيقة الامر قلقاً على اسرائيل بأكثر مما يستظهر الغيرة على لبنان وتوازنات قواه السياسية. وهو اذ يدهشنا فانه لا يفاجئنا، لان خبرتنا مع جماعة "الضد" انه حين يتعلق الامر باسرائيل، فانهم يصبحون اكثر حساسية وارق قلوباً، فمقاومة احتلالها تعد تطرفاً وارهاباً، والعمليات الاستشهادية تصبح عندهم انتحاراً وتخريباً، ورفض الاستسلام لشروطها يغدو عداء للسلام، اما تطور الابحاث النووية الايرانية، الذي يمكن ان يكسر احتكار اسرائيل للقدرة النووية ولو بعد عدة سنوات، فانه في عرفهم خطر يهدد السلام واخلال بالتوازنات القائمة في المنطقة. كأن تلك التوازنات لا تستقيم وشبح الخطر لا يمكن ان يزول الا في ظل التفوق الاسرائيلي، الذي يمكنها من فرض ارادتها على العالم العربي وتركيعه. ان المرء حين يقرأ مثل هذا الكلام لا يتصور انه صادر عن موقع في الصف العربي، ولكنه يتساءل على الفور هل امثال هؤلاء اقرب الى حزب العمل ام الليكود؟! (3) لا نستطيع ان نفصل هذا الكلام عن تجليات مماثلة اخرى ما برحت تضرب في فكرة الانتماء العربي. وتغذي التعصب للقطرية بوسائل شتى. كان بينها رفع شعار "نحن أولاً"، والقوس مفتوح بعد ذلك ليقول من شاء ما شاء. وقد قالها البعض ممن ألمحوا الى انه "لا شأن لنا بغيرنا"، او اننا تحملنا الكثير وليحل الاخرون عن سمائنا، او ليذهب غيرنا الى الجحيم! - ودعاة القطرية هم انفسهم الذين حملوا راية الاستتباع للغرب والتطبيع مع اسرائيل والتصفيق للاحتلال والالتحاق بالمركبة الامريكية بوجه اخص، باعتبارها القوة المهيمنة والورقة الرابحة، في هذه المرحلة من التاريخ على الاقل. أيضاً، فاننا لا نستطيع ان نفصل هذا الكلام عن حملات تجريح الانتماء الاسلامي التي طعنت في التعاليم والتاريخ والرصيد الحضاري. وهي الحملات التي اخذت شكلاً منتظماً وفجاً، وعبرت عن غلو لنفر من المثقفين يصعب افتراض البراءة فيه او احسان الظن به. ادري ان تلك كلها اصوات نشاز لا تمثل وزناً او قاعدة من أي نوع. والملاحظ انها ظلت حيناً من الدهر كامنة في جحورها وملتزمة حدودها، لكن الرياح السلبية التي هبت على اجوائنا في ظل شيوع الهزيمة السياسية والحضارية، جعلت اصحابها يسفرون عن وجوههم ويخرجون من جحورهم، ومكنتهم من ان يرفعوا اصواتهم، لكي يخاطبوا الملأ بجرأة تفتقد ادنى مقومات الحياء الوطني. ليس ذلك فحسب، وانما وفرت الرياح ذاتها لتلك الشريحة فرصة التمكين من بعض المنابر والمواقع، الامر الذي شجعها على مزيد من الغلو ومزيد من الجرأة على الافصاح عن مواقفهم وتحيزاتهم. وما الذي مررنا به الا قليل من كثير تم الجهر به خلال الاسابيع الاخيرة. لا يقولن أحد ان تلك ممارسة لحرية الرأي. فالمستقر عند فقهاء القانون وشراحه (قلناها مراراً) ان الحرية الجديرة بالحماية هي تلك التي تحترم القيم الاساسية للمجتمع، عقيدية كانت ام وطنية وقومية. واذا كان القانون يعاقب شخصاً سب آخر على ملأ من الناس، ولم يقبل منه اعتبار ذلك من قبيل ممارسة حرية رأيه فيه، فأولى بذلك سب أمة بأسرها او الازدراء بها او دعوتها الى الركوع والانبطاح. لا مفر والامر كذلك من ان نصارح انفسنا ونحن نطالع ذلك المشهد، بحيث نعلن بوضوح اننا بصدد خلاف في الاعتقاد وليس في الاجتهاد، كما يقول الفقهاء. فهذا الذي نطالعه ليس وجهات نظر تعالج الشأن الوطني والقومي، ولكنه سعي لاجهاض مؤشرات العافية وركائز الاجماع على هذين الصعيدين، تباشره عناصر طفت على سطح خطابنا الاعلامي من خارج الصف الوطني في مرحلة الجزر والانحسار. بكلام آخر اكثر صراحة، فاننا ينبغي ان نعترف بان ثمة اختراقات غير صحية في ساحتنا الاعلامية، لا نعرف ان كانت مجندة او متطوعة، ولكننا نعرف جيداً ان شخوصها يقفون في معسكر "الضد" منا، وان خطابهم علينا وليس لنا. وهو ما يفرض على القوى الوطنية ان تتحسب له، على الاقل من حيث ادراكها لعمق جبهة المواجهة واتساع افق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة.