العين المتمخضة عن دمعة تروي أخاديد خده الجافة ، أسدلت جفنها ، وصرخة الظمأ المكبوتة بين شفتيه الشاحبتين شنقت نفسها ، وحلم الماء المتلاشي أصبح عزيزاً في زمن الجفاف. تحرك شيء في نفسه وهو يبصر هذا المشهد المؤلم عبر شاشته البلازمية . تناول كأساً من القارورة الكريستالية المعبأة بمياه غازية . بعد برهة تفكير وثب لإضرام النار في الأرض . هلك الحرث والنسل ، وجفت الأنهار ، والتفعت السماء بسواد دخان الحرائق ، واتسع ( شِقُ ) الأوزون على الراقع . هَبَّ أهل الأرض لتحرير عريضة ذيِّلت بأسماء الوجهاء والعلماء . أبرقوها لصاحب المكانة يلتمسون الإطفاء ؛ فسخونة الأرض فجرت مقاييس الحرارة ، والتصحر انفرطت بوصلته فهرول دون وعي . أخذ العريضة في غرفته الغافية بضوء شمعة ، وطوق بالعريضة خصر الشعلة . تراقصت في ثوان وخرت رماداً على الطاولة . بإصبعه كتب ببقاياها : (إني أرى ما لا ترون ؛ فبعد حين سيذوب جليد القطبين ، وتشق الأنهار أكباد الصحارى ، وسيرتوي القاصي والداني) . عبق أدار مزلاج الباب برقة . دفع الباب بأكثر منها حتى لا يفضحه صوت العصفورين المحبوسين في مفصلي الباب . جال متلصصاً لم ير سوى عباءتها القديمة معلقة على المشجب تفوح منها رائحة دهن العود المعتق . لا بد أنها غير موجودة في المنزل ! . أخذ ينادي : يا عمري ... عمري ... عمري ما من مجيب !. جلس على أحد الكرسيين في زاوية غرفة الجلوس . أخذ يقلب أوراق المجلة التي كانت تتصفحها يتتبع أثر العود المطبوع بأصابعها فيقبله ، ويقرب أنفه منه فيأخذ نفساً شديداً تمتلئ به رئتاه يعب منه حتى الثمالة ، يحلق كملاك . تشابكت يداهما في العنان .التصقا يجذبهما العناق . تذكر كيف كانت تستقبله بقبلة تمسح ذاكرة النهار المضني . رائحة الطعام تفوح من المطبخ ، تجذبه إلى هناك وبصوت رقيق : * اخلع ملابسك أولاً . * لا أستطيع ، فالرائحة تأسرني. يجلسان متقابلين . تمد يدها بقطعة لحم . يقضمها ويعض أصبعها: * أصبعك ألذ من اللحم . * أسنانك أرق من أن تقضمه . جرس الهاتف يرن . أوقظه . رفع السماعة . دقائق من وشوشة العصافير : * هل أكلت ؟ ينظر إلى الطاولة أمامه ، بقايا بسكويت ونصف كوب ماء : * وهل للطعام نكهة دون أن يبهر بخضاب كفيك ؟! الصمت يلجم فم الهاتف . ثرثرة الشوق تصم أذن الاغتراب . لم يبق من حديثه سوى لعاب طلى سماعة الهاتف لانعدام السيطرة في دفة القُبَل. ساقته عباءتها المعلقة . دثرته واحتضنته كطفل بين أعطافها . دقائق من الهدهدة استسلم بين كفيها .