تحول المنزل إلى كوخ مهجور، لم تطأ قدم إنسان فيه منذ ذلك الرحيل، تراكمت طبقات الغبار على الأبواب والمصاطب، طغى الغبار على كل شيء، وأفقدت الأشياء ألوانها الاساسية، شجرة العنب المتعرشة على الفناء الخارجي قطع حطب مكسرة، وعش اليمامة ليس له أثر، وغابت اليمامة، طارت إلى فضاء الله الواسع، اصطادها صياد مشاكس، غابت كغيرها من الأشياء دون أن يفتقدها إنسان، أو ماتت حزناً على وحدتها . هنا كانت تقف بصمت، تتأمل ذاك الفضاء السحيق، وتشير إليه بأصبعها الرفعية، : سنمر من هنا ونرتقي إلى أن تصبح الأرض لنا مجرد كرة صغيرة. تأتي خلسة وتقدم زاداً لليمامة التي تأخذ من تحت شجرة المتعرشة مسكناً لها، فيأتيني هديلهما ممزوجاً مع نسمة الصباح، ناعماً ومنعشاً، فأسرع إلى الباب، أسمعها تحدث اليمامة كمن يفشي بسره إلى صديقه المخلص: (سنأخذك والمليكة معنا إلى هناك حيث يطيب بنا المقام) ثم تحدثها عني، وتشرح لها طبيعة رحلتها، وما إن تراني حتى تلقي علي تحية منعشة تسكنني مع بوح الألم. ناقشنا الأمر طويلاً، ورتبنا كل شيء، ومست ريش اليمامة بيدها قائلة: لن أتركك لوحدك، سآتي قريباً وغابت . المنزل أشبه بقبر قديم، لم يحاول أحد أن يدخله، وشجرة الرمان المتفرعة هناك في زاوية الفناء كانت مأوى لعصافير الظهيرة صيفا، لم يبق منها سوى جذعها اليابس، كأنها احترقت شوقاً لأناملها، لتقطف حبة مكورة وترفعها إلى الأعلى تلاعب بها، إنها أول بركات الصيف. كان صدرها متكوراً، كتلك البركات، لكنه ثمرة يانعة وهبة من الزمن الخالد. سفيرة الصمت والجبال المحترقة، تأتي مساء ، صباحاً، وفي أي وقت تشاء تفوح منها رائحة ازهار جبلية وتغمرني بضحكة تشبه المطر، فتمنيت لها في قلبي ألف وردة وحديقة، كانت تحب الناس والطبيعة والالوان وكان حبها لليمامة يفوق أي شيء . جاءت ذات مرة، تحمل حقيبة صغيرة، ومارست طقسها المعتاد مع اليمامة، ثم قبلت رأس المليكة، وأسرعت إلى بقامتها الممسودة، كشلال يتدفق بعذوبة ، ثم أخرجت ورقة بيضاء وقلماً غاص بين أناملها الرفيعة ثم رسمت خريطة مليئة بالمنحنيات والسدود والأقواس، ثم قالت: هذه رحلتي أبدأ من هنا وهي تشير إلى نقطة تكاد تختفي بين (الخرابيش) العشوائية وأنطلق في هذا الاتجاة، اتعثر هكذا واتخطى الصعوبات بذلك الشكل، ثم لونت الممرات التي ستسلكها. هديلها ينسكب فضة على الخريطة فتتحول الخطوط إلى رسومات وأشكال عشوائية تغطي مواقع الفرح في رحلتها المدهشة . غطت الطحالب جدران المنزل، ونبتة الخرنوب البري اكتسحت الزاوية المسورة المخصصة للنعناع ، بعد أن تشققت الأرض، وابتلاها العطش. تأتي مساء، وبعد أن تنتهي من لقاء اليمامة تأخذ وريقات من النعناع وتقول لأمي: ضعي هذه مع الشاي، فرائحتها زكية: فتبتسم المليكة وترد : قولي فقط من أين لك كل هذا الجمال ؟ فيشع من عينيها بريق هائل من الفرح كحديقة خضراء شائعة، تغسلها الأمطار، ثم يغطيها الضوء فتذوب الفواصل والحدود بين المطر والحديقة، فنبدأ رحلة كونية صامتة. وتسألني أمي قبل أن أودعها: هل قدمت شيئاً لها ؟ فأجيبها : الآن .وهل أحضر الغداء تحت عريشة العنب، فأجابت عني:لا سنرحل يا مليكتي ، وعندما نعود سنحتفل تحت العريشة. كيف تتكون هذه المشاهد لحياة لم ندخلها ولم نعشها بعد. سالتها ذلك بمرارة انها هكذا ينسجها القدر على قدر مقاسات الألم اللازمة لتجرفنا إلى مصيرنا ، وبما ينسجم مع قراءتهم لصفحات الحياة والموت قالت ذلك بعدما أشاحت بوجهها نحو الباب ...... لا تتأخري، فنهايات الفصول تأتي سريعة،وهي كنهاية المرايا تتكسر بغيابك. رجعت إلى الوراء قليلاً وأبعدت خصلة من شعرها عن عينيها، رفعت رأسها قائلة: كل شيء جميل في وقته، ولن أترك فصول الحب تتشتت في براري الغياب والألم ولن تتكسر مرايا الحياة بعد اليوم، وموعدنا قريب. نظرت إلى عينيها، كانت نظراتها تنسكب ضوءاً على الأرض، ثم قلت لها: لعينيك يتشظى القلب، وضفائرك المجدولة بضوء الشمس، كيف تكتسب حزن الليل ؟ وابتسامتك الشبيهة بزهرة اللوتس إذا غابت أو ذبلت سيحل الظلام على الكون. لوحت بيدها قائلة: انتظرني، سآتيك ثانية، وأرتب معك ميعاد المكان، قبل أن نفقد الزمن المثقل بالخوف، كانت اليمامة تنظر إليها بهدوء عجيب، ثم صفقت بجناحيها ونفضت عن ريشها بقايا الغبار وبدأت تهدل هديلاً ناعماً يشبه ابتسامتها الخضراء عند قدومها ، ثم غابت إلى الآن . ودعت المليكة (أمي) فبكت طويلاً، يا لها من مسكينة يطعنها الحزن من كل جهة، تبكي عند قدومي وتبكي لمغادرتي وتبكي لغيابي، ثم تبكي لحضورها ولغيابها، إنها تبكي لكل شيء، وأعرف أنها بكت بما فيه الكفاية خلال السنوات الماضية الطوال. المنزل موشح بحزن فظيع، كأن الغربان قد نفضت عليه سوادها وشؤمها، أو ان بوم البؤس قرأ عليه تراتيله وتعويذاته، كان في السابق مضاء بجمالها، وبلمسات المليكة التي تحدثك في كل مكان فيه. على هديل اليمامة نفقد الوعي، ونغيب في تهويمات لا حدود لمفاصلها، تأخذنا إلى فضاءات مليئة بالهدوء، لا يحسب فيها الزمن المقيد بالساعات والايام. نشعر أننا طائران، لنا أجنحة ومناقير، أصواتنا متقطعة، نشعر أننا نسبح في ذلك الفضاء اللامتناهي . غابات الأشجار تبدو لنا حينما ننظر إلى الأسفل كأعشاب ناعمة طالعة، والأنهار الكبرى ليست سوى خيوط فضية تميل إلى زرقة مرسومة على فستان الارض او تحيط بخاصرة هذا الاقليم أو ذاك، وكلما ارتفعنا تزداد كثافة الستارة الفضية، التي تغطي الأرض ... ثم لا نذكر شيئا بعد ذلك .. وتغيب فجأة في مساحة سديمية ونتلاشى في ذوبان بطيء ويختفي فينا الهديل الناعم، وتمر الأشهر والسنون، وندون تفاصيل الكون في دفاترنا، ونعود إلى المليكة، فتتفتح أساريرها، وتعانقنا بعمق، وهي تسرع إلى اليمامة وتشرح لها رحلتنا، وتهدلان معاً هديل الصمت والحياة. وعلى هديل اليمامة نستعيد ذاتنا المتلاشية وإذ بنا نواجه ضوء الصباح وتبدأ دورة جديدة من الحياة، وبريق عينيها يتوغل داخل صدري إلى درجة الألم فتجتاحني قشعريرة لذيذة لم أشعر بها من قبل. تركت المنزل في حزنه، وغباره، وكان الصمت المطبق على جنباته يوحي بنعيق الغربان، غابت، ولا أعرف أتعود ذات مرة أو سيعيش البيت في صمته الأبدي. قاص وشاعر سوري