لا توجد قضية في عالمنا الإسلامي تحظى باهتمام اعلامي، وتبن ظاهر، وأبوة ورعاية كقضية الوحدة، فالحوار حولها يملأ الآفاق، والجدل والنقاش لا يهدأ في قرعه الآذان، وهي في واقع الحال متروكة مهملة. هي غناء الافراد ومعزوفة الجماعات والتوجهات، وهي الحديث الدارج في المجالس والديوانيات خصوصا إذا ألم خطب وهجمت نائبة على عالمنا الإسلامي. وقد أشار المفسرون لقوله تعالى( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) ثم تواصل السياق في الآية التي تليها ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) أشاروا إلى أن قضية الوحدة وتراص الصف هي القضية التي يكثر القول والحديث فيها دون أن تطبق ولذلك أكد سبحانه أنه يحب المقاتلين في سبيله كأنهم بنيان مرصوص، وليس المتحدثين والشعاراتيين والمزايدين، والذين يقولون مالا يفعلون. التهيئة كما هو شأن الكثير من الأجهزة والمستلزمات التي يتوجب تهيئتها للاستفادة منها، نظير الأقراص المرنة المستخدمة في الكمبيوتر، والسيارات الجديدة، والأشخاص الذين يشكون أوضاعا نفسية مرضية، والرياضيين الذين يسبقون رياضتهم بتمارين التحمية، والأمثلة لا تحد ولا تنتهي، فإن قضية الوحدة والتعايش تحتاج إلى تهيئة مركزة وفي كل الأبعاد. ان إصراري على التهيئة النفسية نابع من قراءاتي للنتائج التي لم تكن مرضية بالمجتمعات التي دفعتها الظروف الطارئة والأحداث الضاغطة لتفرض عليها حالة التعايش قسراً، فالتعايش ثقافة، وخلق، وإحساس، واستعداد نفسي ، وهذا الأمور لا تقبل الفرض والقسر. يمكننا ترسيخ بعض المفردات الأخلاقية، والتعاليم الدينية، التي تمكن الناس من العيش المشترك مع بعضهم بصورة سلسة، ابعد ما تكون عن التصنع والتكلف، وبين يديك عزيزي القارىء بعض الفيض الانساني المختزل في مفرداتنا الأخلاقية. حسن الظن تصرفات الآخرين ومواقفهم، أحاديثهم وتصريحاتهم، اتفقوا معنا أو اختلفوا افرادا كانوا أم جماعات، لا توجد أرضية لاستزراع التعايش بيننا وبينهم أخصب من حسن الظن. فالكلام وإن حلى واستعسل، والمواقف وان اقتربت وتداخلت فإنها مع سوء الظن هباء، فسيىء الظن يكثر وهمه، وتزداد هواجسه، وتفسد الأمور بينه وبين الناس، فلا يبقى له صديق ولا حبيب، ناهيك عن الاستيحاش الذي يشعره تجاه أفكار الآخرين، والانقباض الذي لا يعينه على تفهم مواقفهم، فينعكس ذلك جفافا في التعامل، وانكماشا وبرودا في المشاعر، وحينها لا يبني مع الآخرين بناء، ولا يعمر بمعيتهم وطنا، ولا يشيد وإياهم صرحا بنفس راضية وقلب سليم. الحب الذي أصبح تعليمه ضرورة في زمن الأشياء وعالم الماديات، فكل شيء أصبح ذا قيمة إلا الانسان، فإنه يداس ويهان ويقتل من أجل الأشياء، من أجل شبر من الأرض يسحق، وطمعا فيما تحت هذا الشبر يذبح، واستحواذا على ما فوقه يسجن ويهان ويشرد . وسواء بمبررات مادية أم غيرها مازال الإنسان فداء لكل شيء دون أن تشفع له إنسانيته أن يفدى، ولذلك امتلأت الأرض بدمائه النازفة، وتعددت الأعذار والأسباب في ذلك، لكنها اشتركت في الكره للإنسان، والاستهتار بحياته. لا بديل عن الحب لمليارات البشر الذين اكتظت بهم الأرض، واقتضت سنة الله اختلافهم وتنوعهم في كل شيء، كي يسود الأمن والاطمئنان بينهم، فالحب حين يغمر الإنسان ويملأ نفسه، يفيض لطفا وسخاء في العطاء وبسمة وبشاشة في المحيا وسعادة وانسا بنظيره في الخلق، وبذلك يمكنه التعايش والانسجام مع أخيه في الانسانية من أجل وطن شامخ البناء، ومجتمع محكم العلاقة، منيع على الحاقدين والمتربصين. الإعذار التعايش مع الآخرين يستدعي نوعا من المرونة والطراوة، ويحتاج مهارات نفسية عالية، وأخلاق قيمية راقية، تساعد في إيجاد حالة التعايش واستمرارها في المجتمع، سواء بين الأفراد أو المدارس والجماعات. والمهارة الأهم بين تلك المهارات هي مهارة الإعذار، والمراد أن نقرأ تصرفات الآخرين بإحدى قراءتين. الأولى: قراءة لا تستبطن السوء لتصرفاتهم مادام بوسعنا أن نحملها على وجه إيجابي حسن والثانية: قراءة تسعى بإيجابياتها لالتماس العذر لهم على تصرفاتهم، وكأنها اجتهاد وقع في دائرة الخطأ . ولتوارد الخواطر فإن الفقهاء يعملون بهذه القراءة في بعض الموارد تحت عنوان (حمل عمل المسلم على الصحة) . بهاتين القراءتين ستكون الأمور أكثر قبولا وتوافقا، لأننا سننأى بها عن القصد والعمد وسبق الإصرار والترصد، وسينظر للأخطاء في التصرفات والمواقف باعتبارها مجرد أخطاء تعرض لكل إنسان ومجتمع، وستعالج في دائرتها الضيقة، مع الاحتفاظ بالألفة والانسجام والعيش المشترك.