يعتبر حسن الكلام من الموضوعات المرعية في آداب التعامل بل هي من ضرورات الآداب العامة في السلوك الاجتماعي التي حث عليها الدين الحنيف منذُ القدم. وفي الثقافة المعاصرة نجد الحلقات التطبيقية والدورات التدريبية في مختلف المراكز العالمية تتبنى هذا ( الفن ) الأخلاقي باعتباره صفة وسمة يحتاج وإليها جميع الناس . القول الميسور : لغتنا العربية جميلة وهي لغة القرآن الكريم ولها من السحر ما يمكنها من التوغل في ميدان العلاقات الإنسانية باعتبار أن اللغة وسيط هام في بناء جسور المودة بين الناس، وهذا عيناً ما دفع مؤلف قصة الحضارة ( ويل ديورانت ) إلى ذكر ثلاثة تعريفات مختزلة لثلاثة مستويات حضارية كبرى، وهي الحضارة الصينية، والحضارة الإغريقية، والحضارة العربية المتمثلة في لسانهم، وتلك إشارة مباشرة إلى المعجزة القرآنية. فالعرب لم يكونوا في حاجة إلى معجزة حسية نفعية كما كان بنو إسرائيل يطلبون من أنبيائهم إنزال المائدة، كما لم يطلبوا معجزة خوارقية كولادة المسيح من العذراء، أو أن يمشي موسى على الماء أو أن يشق البحر بعصاه، لذا كانت معجزة القرآن الكريم في بلاغته. وعند تتبع العديد من الأقوال في موروثنا الثقافي والديني سوف نرصد زخما من النصوص الدالة على إطراء القول اللين اللطيف وأثره في النفوس، فقد ورد عن الإمام علي (كرم الله وجهه) قوله: { من لانت كلمته وجبت محبته } وقالت العرب في أمثالها الدارجة ( الكلام اللين يغلب الحق البين )وجاء في الحكمة الصينية القول المشهور (إذا كان قلبك وردة فلا بد أن يتلفظ فمك بكلمات عطرة) والقرآن الكريم قبل ذلك كله شجع وحث على استخدام الكلام الرقيق الجميل قال سبحانه وتعالى { فقل لهم قولاً ميسوراً } الإسراء ( 28 ) و ( ميسور ) مشتقة من ( يسر ) بمعنى الراحة والسهولة ويشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالاحترام والمحبة . العفة بين الظاهر والباطن: ان الإطار اللفظي الذي نضع فيه كلماتنا هو في الحقيقة انعكاس لذواتنا وكما قال الإمام علي (كرم الله وجهه) ( تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه ) بمعنى أن حسن الكلام واللباقة في الحديث مع الآخرين ليسا مجرد كلمات تخرج من بين الشفتين ولكنهما أداتان دالتان على مخزون القيم الذي يقف عليه الإنسان في حركته الاجتماعية فهو انعكاس الداخل على الخارج يقول الإمام الشافعي: يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا ويدل حسن الكلام من جهة أخرى على مكنون ومعدن الإنسان ورجاحة عقله، يقول الإمام علي (كرم الله وجهه) (الألسن تترجم عما تجنه الضمائر) ويقول أيضا (يستدل على عقل كل امرئ بما يجري على لسانه ) وقال الشاعر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم تبق إلا صورة اللحم والدم فالعفة اللفظية وإن كانت من الأمور الظاهرة لكن تعاليم الدين تربطها بالأخلاق والضوابط باعتبار أن لها دلالتها النفسية ولها علاقة مباشرة بالداخل. وقد فصل الشارع الإسلامي الفوارق بين الغيبة والنميمة والبهتان والسخرية والتنابز بالألقاب والهمز واللمز.. الخ. فجميع تلك السلوكيات من الأمور المتعلقة بالاتصال الإنساني ( حسن الكلام ) فقد تكون اتصالات لفظية لكنها مقنعة بألفاظ تسبب التجريح والإهانة أو كما جاء في الأمثال العالمية (في اللسان يختبيء تنين لا يسفح الدم ولكنه مع ذلك يقتل). المشاحنات اللفظية: العديد من العبادات تختزن مدلولات سلوكية راقية ومصممة لكي يمارسها الفرد وبشكل تطبيقي أي ( بحسن الكلام ) كما هو الحال في ( شعيرة الحج ) وفي شهر ( رمضان المبارك ) تلك التدريبات على حفظ اللسان تشبه الحلقات أو الدورات التدريبية التي تتم في معاهد الإدارة ومراكز التدريب العالمية لكنها متجذرة في الوجدان ألقيمي ومتترسة بالتعاليم الربانية تتم بشكل تلقائي وبدون إجراءات رسمية وبلا مساحيق أكاديمية. فقد يقوم الفرد منا بالتحرك من أجل الدفاع عن فكرته ضد المعارضين فيتحول الموقف إلى أجواء مشحونة بالتوتر الفكري والنفسي والكلامي من أجل الوصول إلى الغلبة. لذا يجدر بنا التمعن في الفرق بين ( الجدل والحوار ) فقد وردت كلمة ( الجدل ) في القرآن الكريم في سبعة وعشرين موضعاً. أما كلمة ( الحوار ) فوردت في ثلاثة مواضع ؟ والحقيقة أن التوصيات الأخلاقية لا تقف عند حدود الجدل وأجواء الاختلاف مع الآخرين فقط، بل حتى في الدوائر الخاصة بالأقارب والأهل والأصدقاء. فالمزاح مثلاً لا يجوز فيه الاجتراء على الشخصية الممازحة بتوجيه الإهانة لها واستنقاصها فيرد على المزاح بمثله فتتصاعد إثر ذلك المناوشات الكلامية فتنشأ حالة من التوتر والضغينة فيصبح المزاح ممارسة عدوانية أوسلوكا غير سوي من الزاوية النفسية. ومعلوم للجميع إنه طالما أستخدم المزاح في واقعنا الاجتماعي لتصفية الحسابات وإبراز الانا الغالب المتضخم ولا نقصد من ذلك منع وحصر المزاح، بل هي دعوة لكي نتأمل في( دوافع المزاح ) فإذا صدر بدافع الدعابة المهذبة التي تدخل السرور على الآخر فهي مرغوبة لأنها تحقق التواصل والحميمية مع الغير. وقد جاء في السيرة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان كثيرا ما يداعب ويدخل السرور على الصحابة وهكذا كان الصحابة الذين عرفت عنهم الدعابة والبشاشة والطلاقة في الوجه وكثرة التبسم و يقول الإمام علي (كرم الله وجهه) معززا ذالك السلوك : ( من كانت به دعابة فقد برء من الكبر ). و بمراجعة سريعة لكتاب ابن القيم الجوزية (روضة المحبين ونزهة المشتاقين ) سوف نلاحظ فيضا جميلا من الكلمات ودرجاتها التي تزيد على الخمسين لكل منها معنى متدرج ورقيق حيث حاول (ابن الجوزية ) جمعها ويأتي في طليعتها : ( المحبة, الود, الخلة, الرسيس , الهوى , الصبابة , الشغف , الوجد , الكلف, الجوى, الشوق, الغرام, العشق, الهيام,الوله ...الخ). هذا التقسيم للمفردات الراقية لا وجود لها في ا للغات الأجنبية حيث انفردت اللغة العربية بدقة البيان وإصابة المعنى وغنى المفردات.ولقد علق أحد الأدباء: ( أنه لو اطلعت الزوجات في البلاد الأجنبية على جمال مفردات اللغة العربية وتقسيماتها من الحب لشاقهن أن يتعلمن العربية ليعرفن مواقعهن عند أزواجهن) ولم يكن تغزل العرب قديما مقتصرا فقط على مظهر النساء وجمال أجسادهن فقط كما هو الحال في تفوق المرئي (الصور) على المعنوي قال الشاعر العربي : مهذبة الألفاظ مكية الحشا حجازية العينين طائية الفم الجانب الاجتماعي والجانب الوجداني: يؤكد القرآن الكريم في العديد من ألآيات على الجانب الاجتماعي في التعامل (إنما المؤمنون أخوة)وهو يرتبها بالجانب الوجداني المتصل بالأيمان بالله الذي ألف بين القلوب فلا يشعر الإنسان في طبيعة علاقته بأخيه المؤمن (غنيا أو فقيرا ) بالجانب القانوني الذي يخضع لتوجيهات فوقية تأتي من خارج الذات بل يلتمسه طبيعيا عفويا تنساب وتندمج أبعاد سلوكه الاجتماعي بطبيعة الدوافع الخيرة لتلك العلاقة التي تستدمج رقي العلاقة بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية فيختزن التكافل والتماسك الاجتماعي ينابيع الروح الفياضة المقرون بمعاني المحبة والشفافية في نمط الاتصال.