من غلب سلب يسعى التاجر إلى ترويج سلعته بحملة دعائية ترمي إلى جذب اهتمام المستهلك. ويحاول المعلن أن يقنع المستهلك بأن سلعته هي الأفضل، لكنه لا يشير إلى عيوب السلع المنافسة. أما في اللعبة الانتخابية فكل وسائل التنافس متاحة. وكل الطرق تؤدي إلى كرسي الرئاسة. ويركز المرشح، عادة، على نقطتين جوهريتين: إيجابياته وسلبيات خصمه. إنها حملة تسويقية يحاول المرشح خلالها أن يرضي كل الأذواق والميول والانتماءات. فهو مع الحرب إذا خاطب الصقور، وضدها إذا خاطب الحمائم، وهو مع النباتيين حينا ومع أكلة لحوم البشر حينا آخر، وهو نصير للتجار وسند للمستهلكين. ومرحبا بالمتناقضات التي تؤدي إلى حشد أكبر عدد من الأصوات. معركة مكتظة بالوعود لكنها سرعان ما تتلاشى بعد انتهاء الحملة، ليتساءل الناخب بعد ذلك: "فين اللحمة"؟ وقد حاول مارك توين التعبير عن تلك المتناقضات في وصف للطائر أبي زريق فقال: "يستطيع أبو زريق أن يحنث بوعده أربع مرات كل خمسة وعود، وأنه لا يوجد أعظم شبها بالإنسان من أبي زريق". لكن المقامة الدينارية لبديع الزمان الهمذاني أبدع تعبيرا عن التنافس بين مرشحي الرئاسة من أي قول آخر حيث يمثل "الدينار" كرسي الرئاسة خير تمثيل. ينقل بديع الزمان عن عيسى بن هشام أنه نذر أن يتصدق بدينار على أشحذ رجل ببغداد، فدُلَّ على أبي الفتح الإسكندري ومضى إليه، لكنه وجد عنده جماعة تنافس الإسكندري على الدينار. تلبَّست عيسى بن هشام روح الدعابة، فأجرى مسابقة على الدينار بين الإسكندري وأحد رفاقه قائلا: ليشتم كل منكما الآخر فمن غلب سلب، ومن عزَّ بزّ. فتشاتما، فأسقط في يده، وما علم أي الرجلين يؤثر، وما منهما إلا بديع الكلام، عجيب المقام، ألد الخصام، فتركهما والدينار مشاع بينهما، وانصرف وما يدري ما صنع الدهر بهما! ألا يشبه ذلك ما يفعله المتنافسون في الحملات الانتخابية؟ أنا ومن بعدي الطوفان كنت أعتقد أن الجوائز شيء مضر ويؤدي إلى التفرقة حتى فزتُ بواحدة منها فأصبحت مهمة وذات "دلالة". هذا ما يقوله ساخرا الممثل الكوميدي (بل ناي) بعد فوزه بجائزة (الإيفننج ستاندرد للكوميديا). وتصور هذه العبارة كيف تكون (الذات) محور العالم ونقطة ارتكازه. كل شيء، إذن، يستمد دلالته وقيمته وأهميته من (الأنا). وكل شيء خارج تلك الدائرة لا شيء. نزعة فردية تقوم على تأكيد الذات بشكل مبالغ فيه، حيث تصبح كل الجوائز والمؤتمرات والأنشطة والمؤسسات الثقافية مضرة وغير ذات جدوى إذا لم تحتف بقمر الزمان. وكثيرون هم أولئك الذين يهاجمون الجوائز بكل أشكالها ولكنهم يتمنون الفوز بها. بعضهم يشتمها لأنه لم يحصل عليها، وبعضهم يشتمها لأنه يكره من فاز بها. وثالث يشتمها لأنه قد جبل على الشتائم. ولله في خلقه شؤون. الدينار يساند الكسائي قلت في مقال سابق: على الذين يعلقون مآزقنا التاريخية على سيبويه، ويطالبون برأسه، أن يتذكروا ما نال الرجلَ من حيفٍ في مجلس يحيى بن خالد بعد مناظرته مع الكسائي، حيث ساهم الذهب، يومئذ، في ترجيح كفة خصمه الكسائي. وتبدأ الحكاية صباحا في حلقة الكسائي، عندما همس الفراء في أذن معلمه قائلا: "لا تناظره على مسمع من العامة، فإن العامة تؤخذ بالظاهر"! بعد ذلك جرت مناظرة سريعة ثم عاد الشاب العلامة (سيبويه) القادم توا من البصرة، إلى دار مضيفه بالكرخ استعدادا للمناظرة الكبرى التي حدد مكانها وزمانها سلفا.. أما الفصل الثاني من الحكاية فيبدأ في دار يحيى بن خالد. كان البهو عامرا بالعلماء والكتاب والشعراء وكبار التجار ورجالات البلاط. وكان يحيى يتصدر المجلس وإلى شماله الأحمر النحوي، يليه الفراء. كانوا جميعا في انتظار الكسائي، غير أن تسرع الأحمر وصديقه الفراء قد عجَّل في نشوب اختلافات اجتهادية، رفعت درجة حرارة المناظرة. ولما شعر سيبويه أن هدف المناظرة لم يكن خدمة الحقيقة بل التقليل من شأنه العلمي، استشاط غضبا وقال مخاطبا الأحمر النحوي والفراء :"لا أكلمكما حتى يجيء صاحبكما!"، وما أن أكمل الشاب عبارته حتى حضر الكسائي واختار مجلسا قريبا من سيبويه. وحين أعلن عن بدء المناظرة انتقل الشاب من مكانه ليصبح في مواجهة الكسائي. لكن الاختلاف سرعان ما وصل ذروته بين الرجلين. وأراد يحيى تلطيف الجو فكال المديح للعالمين الكبيرين، واقترح للوصول إلى الحقيقة تحكيم أحد العارفين بلغة العرب. واقترح الكسائي أن يحكما أحد الأعراب، وقبل سيبويه بذلك. لكن قبل ساعة على إجراء التحكيم، وفي إحدى خلوات يحيى، وقف أعرابي بين يدي الوزير، وعينه على الصرر الذهبية. قال يحيى: هل تقول: "كنت أظن أن الزنبور أشد لسعا من النحلة فإذا هو إياها"، أم "فإذا هو هي؟" أقول: "فإذا هو هي" أيها الوزير! قال يحيى: "لكننا نريد منك أن تقول: فإذا هو إياها".. ونريدك أن تقول.. وأن تقول.." وسرد عليه بقية الاختلافات النحوية بين الكسائي وسيبويه، وافق الأعرابي بعد تردد. وهكذا لعب الذهب دورا كبيرا في ترجيح كفة الكسائي. عندئذ جمع سيبويه متاعه القليل، وركب راحلته عائدا إلى خراسان، ليموت هناك ولمَّا يزل في ريعان الشباب. وما أشبه الليلة بالبارحة!