يتفق الكثير من المهتمين بقضايا المرأة في المملكة أن جغرافيا المشاركة والانفتاح في جميع المجالات الحياتية ترسم حدودها توسعاً وتضيقاً فتاوى العلماء وآراء الفقهاء ومدى وعيهم بالنوازل الحادثة في هذا الباب. والنظر الشرعي يؤكد أهمية الرجوع لأهل العلم في كافة القضايا الواقعة والمستجدة لأن الشريعة جاءت وافية بمصالح المرأة ونصت على كثير من حقوقها وواجباتها الواقعة والمتوقعة. والمقطوع به من أحكام وقضايا المرأة لا يسوغ للمسلم الاجتهاد فيه فضلاً عن الاعتراض عليه. ولا أعتقد أن هناك خلافا كبيرا حول هذه الثوابت والقطعيات. ولكن الإشكال يكمن في الأمور التي يتسع فيها النظر والاجتهاد فينغلق النظر فيها نحو رأي لا يقبل الخطأ أو اجتهاد لا يتسع للنقاش. والحقيقة أن واقع فتاوى المرأة في البلاد الإسلامية يشهد تبايناً واختلافاً كثيراً بين مدارس الفتيا، إضافة للحيرة والاضطراب التي اعترت كثيراً من المسلمات جراء هذا الاختلاف.وهذا ما حملني أن أسطر بعض التأملات الفقهية والأصولية في هذا الموضوع الحيوي المتشعب ببعض الإشارات الموجزة، من خلال النقاط التالية: أولاً: ضرورة التمييز في قضايا المرأة وأحكامها بين القطعي والظني وبين الثابت والمتغير، وأعتقد أن الخلط بينهما زاد من ضراوة الاختلاف بين المتنازعين. في حين أن أصل المسألة لم يحرر من الناحية الفقهية، ولم يعرف ما هو من قبيل السائغ من الاجتهاد أو مما لا يجوز الاجتهاد فيه. ولهذا يعذر المخالف في الظني الذي يسوغ فيه النظر والاجتهاد ولا يعذر المصادم للنصوص والاجماعات القطعية التي لا تقبل النسخ أو التأويل. والقاعدة في هذا الباب: " لا إنكار في موارد الاجتهاد" يقول ابن تيمية: " مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين". فلا إنكار إلا ما ضعف فيه الخلاف أو كان ذريعة إلى محظور متفق عليه كما ذكره القاضي أبو يعلي في الأحكام السلطانية. ثانياً: من المقرر شرعاً أن هذا الدين بني على اليسر ورفع الحرج وأدلة ذلك غير منحصرة يقول الله عز وجل: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ويقول عليه الصلاة والسلام: " إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسراً" ولكن المتأمل في حال كثير من فتاوى المرأة المعاصرة يجد أن هناك نوع تشدد وتضييق يخالف مقاصد التيسير ورفع الحرج، وقد يكون السبب في ذلك: التعصب للمذهب أو للآراء أو لأفراد العلماء بحيث يجعل منها نصوصاً للولاء والبراء ويعتقد فيها الحق الذي لا يحيد عنه إلا ضال، وهذا لاشك نوع انغلاق في النظر وحسن ظن بالنفس وتشنيع على المخالف والمنافس مما يولد منهجاً متشدداً يتبعه الفقيه أو المفتي بإلزام الناس بمذهبه في النظر وحرمة غيره من الآراء والمذاهب، مما يوقعه وإياهم في الضيق والعنت بالانغلاق على هذا القول أو ذاك المذهب دون غيره من الآراء والمذاهب الراجحة. يقول الأمام أحمد - رحمه الله-:" من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم" مع العلم بأن مذهب جمهور العلماء عدم إيجاب الالتزام بمذهب معين في كل ما يذهب إليه من قول. فيصبح حال أولئك النساء إما بحثاً عن الأقوال الشاذة والمرجوحة فيقلدونها ولن يعدموها، وإما ينبذون التقيد بالأحكام الشرعية في شؤون حياتهم وهي الطامة الكبرى، ولو وسع الفقهاء على الناس في بعض المسائل التي أضحت من أولوياتهم واحتياجاتهم كمجالات عمل المرأة ومشاركاتها الاجتماعية ومعاملاتها المالية والاقتصادية وبعض مسائل الترويح والترفيه والرياضة، وضبطوا لهم صور الجواز واستثنوا منها صور المنع ووضعوا لهم البدائل الشرعية خيراً من أن يحملوا الناس على هذا المركب الخشن من المنع العام والتحريم التام لكل تلك القضايا النازلة. ومن مظاهر التشدد والانغلاق العمل بظاهر النصوص فقد دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها. والحكم بالحل والحرمة على ظاهر اللفظ دون اعتبار دلالات فهم النصوص أو العوارض المؤثرة عليها من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويلات معتبرة كما هو الشأن في صوت المرأة ووضع عباءتها وبعض مسائل الزينة واللباس. يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-: " لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهيته قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا أو حرم كذا، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرمه). أما الغلو في سد الذرائع والمبالغة في الأخذ بالاحتياط عند كل خلاف فهذه سمة واضحة ومعلم بارز لهذا المنهج حمل كثير من الفتاوى المتعلقة بالمرأة نحو الغلو والتشدد. وقد دلت نصوص كثيرة على اعتبار سد الذرائع والأخذ به حماية لمقاصد الشريعة وتوثيقاً للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد. ولله در ابن القيم- رحمه الله- إذ يقول: " فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له ومنعاً من أن يقرب حماه ولو اباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصاً للتحريم وإغراء للنفوس به". ويحدث الإشكال في اعتبار قاعدة سد الذرائع عندما تؤول المبالغة في الأخذ بها إلى تعطيل مصالح راجحة مقابل مصلحة أو مفسدة متوهمة يظنها الفقيه، فيغلق الباب إساءة للشرع من حيث لا يشعر كمن ذهب إلى منع زراعة العنب خشية اتخاذه خمراً، والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا، أو من منع فتح المدارس للبنات خشية الفجور والوقوع في الفساد.. فهذه الأمثلة وغيرها اتفقت الأمة على عدم سده، لأن مصلحته راجحة فلا تترك لمفسدة مرجوحة متوهمة. ولا تزال ترد على الناس من المستجدات والوقائع بحكم اتصالهم بالأمم الأخرى من العادات والنظم ما لو أغلق المفتي فيه على الناس الحكم وشدد من غير دليل وحجة، لانفض الناس من حول الدين وغرقوا فيها من غير حاجة للسؤال، ولذلك كان من المهم سد الذرائع المفضية إلى مفاسد راجحة وان كانت ذريعة في نفسها مباحة كما ينبغي فتح الذرائع إذا كانت تفضي إلى طاعات وقربات مصلحتها راجحة. ومن الغلو والتشدد الأخذ بالاحيتاط في كل مسألة خلافية ينهج فيها المفتي نحو التحريم أو الوجوب سداً لذريعة التساهل في العمل بالأحكام أو منعاً من الوقوع في أمر فيه نوع شبهة يخشى أن يقع المكلف فيها، فيجري هذا الحكم عاماً شاملاً لكل أنواع الناس والأحوال والظروف. فمن ذلك منع عمل المرأة ولو بضوابطه الشرعية ووجود الحاجة إليه. ويجب التنبيه- في هذا المقام- على أن العمل بالاحتياط سائغ في حق الإنسان في نفسه لما فيه من الورع واطمئنان القلب، أما إلزام العامة به واعتباره منهجاً في الفتوى فإن ذلك مما يفضي إلى العنت وضع الحرج عليهم. رابعاً: ظهر ضمن مناهج الفتيا في مسائل المرأة منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير، وتعتبر هذه المدرسة في النظر والفتوى ذات انتشار واسع على المستوى الفردي والمؤسسي خصوصاً أن طبيعة عصرنا الحاضر قد طغت فيها المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكثرت فيه المغويات بالشر. * أستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن