ربما تكون ألمانيا قد أضعفت لتوها أقوى سلاح بحوزة ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، في المعركة الرامية إلى إنقاذ اليورو. في تموز (يوليو) 2012، عمل دراجي على تهدئة الأسواق من خلال تعهده بأن يفعل «كل ما يلزم» للدفاع عن اليورو، من خلال برنامج يعرف باسم التعاملات النقدية المباشرة، بهدف تثبيت الاستقرار في أسعار الفائدة في جميع أنحاء منطقة اليورو، وذلك عن طريق شراء السندات من الحكومات التي تعاني من متاعب مالية. هذا القرار غير طبيعة اللعبة، وحوَّل الأزمة في أوروبا من أزمة حادة إلى مزمنة. وكانت الأسواق الأوروبية هادئة منذ ذلك الحين. لكن كان هناك دائماً شرط: لا بد أن تحكم المحكمة الدستورية الألمانية وتقرر ما إذا كان برنامج شراء السندات ينسجم مع القانون الألماني، الذي يحظر التمويل النقدي للميزانية. وفي أعقاب نقاش كانت أعين المراقبين عليه في المحكمة في أيلول (سبتمبر) الماضي، توقع معظم المحللين أن المحكمة ستصدر قرارها على شكل «نعم، ولكن»، بمعنى أن تقبل بأن شراء السندات ليس مخالفاً للقانون الألماني، بانتظار تعديلات صغيرة على البرنامج حتى تجعل الألمان يشعرون بأنهم يتمتعون بقدر أكبر من السيطرة. بدلاً من ذلك فاجأت المحكمة كثيراً من المحللين بأن أصدرت حكماً يتلخص في «لا، ولكن». فمن رأيها أن برنامج شراء السندات يخالف القانون الألماني، لكنها تقر بأن محكمة العدل الأوروبية هي التي يجب أن تقرر ما إذا كان البنك المركزي الأوروبي يتصرف ضمن صلاحياته القانونية. ولا بد للمحكمة الأوروبية الآن أن تنظر فيما إذا كان البرنامج يقع ضمن صلاحيات البنك المركزي باعتباره شكلاً من أشكال السياسة النقدية وليس السياسة الاقتصادية. وسيستغرق هذا مدة 18 شهراً على الأقل. فما الذي سيحدث خلال هذه المدة إذا وقع أحد البلدان في المتاعب وأراد البنك المركزي الأوروبي شراء سنداته؟ إحدى الإمكانيات هي أن يُعلَّق البرنامج إلى حين إصدار قرار من المحكمة الأوروبية يعتبره قانونياً – وهو ما يعني أن أقوى أداة للسياسة النقدية في يد البنك ستكون معطلة تماماً. هذا الأمر سيثير قلق البرتغال، التي من المتوقع أن تخرج من برنامج الإنقاذ في وقت متأخر من هذا العام وهي تشعر بأن هناك شبكة أمان إذا اختلت الأمور بصورة رديئة. وستشعر بالقلق بلدان أوروبية أخرى كذلك من البلدان المعتلة مالياً: في كل من اليونان وإيطاليا توجد حكومة غير مستقرة يمكن أن تنهار خلال الشهور ال 18 المقبلة، وهو أمر ينطوي على إمكانية إثارة فزع المستثمرين. لكن على الأرجح سيُعتبَر برنامج شراء السندات على أنه ساري المفعول ومن ثم يتم الحكم بأثر رجعي. بالنظر إلى قرار المحكمة الالمانية، يمكن أن يرفض مجلس النواب الألماني المشاركة في أية مشتريات للسندات إلى أن تتم الموافقة الرسمية على البرنامج. لا يوجد اتحاد بنكي في منطقة اليورو، ولا يوجد فيها اتحاد في المالية العامة، أو اتحاد سياسي، لكن على أقل تقدير تستطيع أن تدعي أن لديها اتحاد نقدي يعمل بصورة تامة. إذار رفض أكبر بنك مركزي في أوروبا المشاركة في برنامج المركزي الأوروبي، فيمكن أن يوضع هذا الادعاء موضع الشك، وهو ما سيثير الانزعاج الكبير بين المستثمرين. بالإضافة إلى ذلك، ما الذي سيحدث إذا أصيبت إحدى الحكومات بالإعسار على التزامات سنداتها التي اشتراها البنك المركزي الأوروبي؟ من الناحية النظرية يستطيع البنك المركزي أن يسجل قيوداً في ميزانيته العمومية لترحيل هذه الخسائر إلى فترة أخرى، لكن من الناحية الواقعية سيحتاج البنك إلى جمع المزيد من رأس المال من البلدان الأعضاء. فإذا رفض مجلس النواب الألماني أن يدفع مقابل أية خسائر ناتجة عما تعتبر المحكمة الألمانية أنه برنامج غير قانوني، فستتوزع الخسائر عبر بلدان منطقة اليورو الأخرى، وكثير منها لا قدرة لها على تحمل تكاليف هذه الخسائر أصلاً. حين أحالت المحكمةُ الدستورية الألمانية القضيةَ إلى المحكمة الأوروبية، فإنها أبرزت 3 تعديلات من شأنها إقناع المحكمة بأن برنامج شراء السندات يتفق مع صلاحيات البنك المركزي الأوروبي والقانون الدستوري الألماني. حسب قول المحكمة، «ربما يتطلب هذا عدم قبول تقليص الديون، وألا يتم شراء السندات الحكومية من بلدان أعضاء مختارة بكميات غير محدودة، وأنه يجب ما أمكن تجنب التدخلات في تشكيل الأسعار في السوق.» إذا وافقت المحكمة الأوروبية على ذلك، فإن هذا سيجرد برنامج شراء السندات من جميع عناصر قوته. كان الوعد بشراء السندات الحكومية ناجحاً؛ لأن مراهنة المستثمرين ضد القوة غير المحدودة التي يتمتع بها البنك المركزي الأوروبي لا يمكن بأي حال أن تكون في مصلحة المستثمرين. لكن تقليص نطاق قوة البنك يؤدي إلى تغيير الحسابات. من الممكن أن يقوم المضاربون باختبار عزم البنك، وهو أمر من شأنه أن يدفع بتكاليف الاقتراض للبلدان الضعيفة في منطقة اليورو إلى أرقام عالية مرة أخرى. كذلك من الممكن أن ترتفع تكاليف الاقتراض إذا جُعِل البنك المركزي الدائن المفضل في مسعى لتجنب الخسائر. في هذه الحالة سيطالب المستثمرون بعوائد أعلى على السندات السيادية، لعلمهم أنهم سيكونون أول من يقع في مرمى النار من حيث الإصابة بالخسائر في حالة إجراء إعادة هيكلة للديون. الأمر الأرجح هو أن المحكمة الأوروبية ستحكم لصالح برنامج البنك المركزي وتعتبر أن البنك تصرف ضمن صلاحياته القانونية، دون الأخذ بالتعديلات التي اقترحتها المحكمة الألمانية. في هذه الحالة سيكون حكم المحكمة الأوروبية ملزماً، لكن ستكون هناك خلافات واضحة بين أعلى محكمة أوروبية وبين أعلى محكمة في أكبر اقتصاد أوروبي بخصوص أهم أداة في السياسة المنطقية في كافة منطقة اليورو. من الصعب أن نعتقد أن المستثمرين لن يتساءلوا حول المصير الفعلي لفعالية البرنامج وما إذا كان سيتم تطبيقه أصلاً، أو حول موعد تطبيقه. جزء من جمال التعهد الذي أصدره البنك المركزي الأوروبي لشراء السندات كان دائماً غموضه. لم يكن لدى أي شخص، بمن في ذلك الأشخاص الذي هندسوا البرنامج، فكرة واضحة حول كيفية تنفيذ البرنامج في حال دعت الحاجة إلى استخدامه من قبل أحد البلدان. كانت صدقيته عرضة للاختبار دائماً. لكن قرار المحكمة الألمانية الآن سيعمل على تقويض صدقية البرنامج بطريقة مختلفة، من حيث إنه أبرز إلى حيز الأضواء النزاعات السياسية حول قانونية البرنامج. سيكون من الصعب تماماً أن يعمل البرنامج بصورة سلسة وسط النزاع والصدام بين البنك المركزي الأوروبي، ومجلس النواب الألماني، وأعلى محكمتين في الاتحاد الأوروبي وألمانيا. * كبيرة الاقتصاديين في مؤسسة مافريك إنتلجنس للتحليل الاقتصادي، وزميل أول في المجلس الأطلسي