ألقت الأحداث الأخيرة في بلادنا بثقلها علينا وأصابت بهول صدمتها ذهول وأسف وحنق كل من رأى ذلك التخريب والتفجير والترويع الهائل الذي أصاب قلوبنا في سودائها قبل أن يصاب بها رجال الأمن وأهل هذه البلاد من الآمنين والمستأمنين.. ولعل هذا المصاب الجلل دفع الكثير للتعبير عن استيائه لما وقع من تفجير بالاستنكار والتنديد أو بالدراسة والتنظير.. ولعلي في هذا المقال أن أنظر إليه من زاوية الخلل والخلط الفقهي الذي وقع به أولئك المفجرون والانهيار الكلي للبناء التأصيلي الذي يقوم عليه حكمهم الشرعي للمخالفين.. سواء أكان ذلك بفتاواهم حول إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب أو تسويغهم قتل الآمنين والمستأمنين أو حربهم الآن مع رجال الأمن والمواطنين.. والملاحظ أن هناك صورا من الخلل الفقهي في الاجتهاد وغيابا كليا للتأصيل الشرعي في النظر في قضايا الأمة وغفلة خطيرة عن مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية فضلاً عن المسائل الفرعية والجزئية. فأحببت أن ألقي الضوء على أهمها حماية لفكر الشباب وتحصينا للغافلين الطيبين من أبناء المسلمين من خطر تلك الشبهات المضلة والانحرافات المهلكة.. أوجزها فيما يلي: * الجهل وتحسين الظن بالعقل مع الغرور بالنفس، وهذه الأمور مجتمعة سبب كبير في الخروج عن الاعتدال المطلوب إلى الجنوح والإحداث في الدين. يقول الله عز وجل: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله"، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: ان الإحداث في الشريعة إنما يقع إما من جهة الجهل، واما من جهة تحسين الظن بالعقل واما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة". والناظر في سمات أهل الأهواء والجنوح والبدع يجد قاسماً مشتركاً من الجهل الذي يصدهم عن الفهم والفقه في الدين والهوى الذي يعميهم عن رؤية الحق والصواب، وهذا ما يجمع في العادة بين أطرافهم المتناقضة وأطيافهم المختلفة. ومصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج قوم من أمتي في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية...) رواه البخاري. * ويحدث الخلل أيضاً عندما تقدم آراء البشر على نصوص الشرع الحكيم، وهذا الأمر وإن كان مردوداً من الناحية النظرية إلا أن الواقع شهد بهذا الخلط بين تنزيل أقوال الرجال مكان نصوص الشرع والدفاع عنها والولاء والبراء من أجلها. * ومن الخلل كذلك ترك تلقي العلم من العلماء ومجالستهم والتتلمذ على الأصاغر والنكرات أو الأخذ من كتب أهل الأهواء.. وجمع الغرائب من الأقوال والآراء واعتمادها حجة على النصوص.. والأدهى من ذلك أن بعضهم يحتج بما في الإنترنت من بحوث وفتاوى ممن لا يعلم قائله ولا مصدره ويشك في أصل صحته. والمتأمل في التاريخ الإسلامي يجد أن هناك صفحات منه تعيد نفسها هذه الأيام، وتتكرر أحداثها اليوم بما يشبه البارحة.. ولكننا كثيراً ما نجهل التاريخ وأحداثه وإذا قرأناه لا نعي حقيقة دروسه المستفادة وعبره الغابرة.. وأذكر لكم مثالاً واحداً على الموقف الفقهي السديد والتصرف الحكيم الذي يجب أن نستوعبه ونتأمله فيما يقع بنا من فتن، وهو ما حصل من فتنة في زمن الإمام الحسن البصري رحمه الله وهو من كبار التابعين علماً وفقهاً وورعا وصرامة في الحق, وصاحب القولة المشهورة: الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل).. فقد ذكر ابن سعد في الطبقات:( كان الحسن والله من رؤوس العلماء في الفتن والدماء) ولهذا نجد مواقفه في الفتن التي حدثت في عهده ما يدل على سعة فقهه ونظره لمآلات الأفعال وحقائق الفتن فلم يفت بقتال بين المسلمين ولم يأمر بنقض بيعه او خروج على أحد وذلك أيام فتنة الحجاج وظلمه للناس. فلما استبطأ الناس والفقهاء الذين مع ابن الأشعث خروج الحسن البصري معه أرادوا إجباره على الخروج وحمله قسر ا لقتال الحجاج يقول ابن عون : ( فنظرت اليه بين الجسرين وعليه عمامة سوداء, قال فغفلوا عنه, فالقى نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم وكاد يهلك يومئذ). ويروي ابن سعد هذه الأحداث ويقول: ( لما كانت الفتنة فتنة ابن الأشعث والحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية (الحجاج) الذي سفك الدم الحرام, واخذ المال الحرام, وترك الصلاة وفعل وفعل؟ فقال الحسن: ( أرى أن لا تقاتلوه فإنها ان تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم وان يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين قال: فخرجوا من عندي وهم يقولون : نطيع هذا العلج! قال: وهم قوم عرب قالوا: وخرجوا مع ابن الأشعث, قال: فقتلوا جميعا). أن من المهم للغاية أن نستفيد من تلك الأحاديث دروسا نتعلم منها ما مضى ونستفيد منها فيما بقي وقاية وهداية لشباب المسلمين من الوقوع في الفتن والانحرافات الفكرية. وارى والله اعلم أن من أهم الدروس التي يجب أن نهتم بها ونراعيها في ميادين التعليم والتربية والعمل الإسلامي, التأكيد على البناء العلمي والفقهي لدى العاملين لدين الله, والتأًصيل الشرعي لقضايا الأمة ونوازلها الحادثة من خلال قواعد التأصيل والاستدلال التي امتازت بها أمة الإسلام عن باقي الأمم الأخرى, فيما يعرف ب (علم أصول الفقه) ومسؤولية تبيين ذلك ملقاه على عاتق العلماء وطلاب العلم في الكليات والجامعات. فعلم أصول الفقه من أجل العلوم واشرفها, فهو يبحث في أدلة الأحكام وقواعد الاستنباط وكيفية الوصول الى الحكم الشرعي في النوازل والمستجدات ولذلك كانت العناية به جليلة لشرف مقصوده, يقول ابن برهان البغدادي : ( يعرف شرف الشيء وقدره بتقدير فقده وتصوير ضده ولو قدرنا فقد هذه المراسم المرعية والأحكام الشرعية الموضوعة لافعال الإنسانية (أي أصول الفقه) لصار الناس فوضى هملا مضاعين, لا يأتمرون لأمر آمر, ولا يتزجرون لزجر, وفي ذلك من الفساد في العباد والبلاد ما لا خفاء به, وقال شاعرهم وهو الافوه الاودي:==1== لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم==0== ==0==ولا سراة اذا جهالهم سادوا==2== فلذلك لا يجد في حياة الناس أمر ينزل بهم حادث إلا وفي أصول الفقه الدليل المنطوق او المفهوم على بيان حكمه ومراد الشرع فيه بما يضبط للناس حياتهم ويحقق لهم السعادة في الدارين.