تعود مواكب المسافرين زرافات ووحدانا، وترجع مراكب السائحين جماعات وأفرادا فبين شقي وسعيد وبين رابح وخاسر. والحديث عن السياحة والسفر يشي بتناثر لأشلاء من الهموم التي تلوكها الألسن هذه الأيام لتكررها الموسمي من المسافرين فيتضوع الناس أخبارها بشراهة، فبعض أولئك الضاربين في الأرض يلدغ من الجحر ألف مرة ومرة فلا يعتبر ولاتؤدي الحوادث التي تفترس بشراسة أرتالاً منهم طريقا للعظة عندهم، ولكن هيهات لذهنية بليدة أن تتعظ أو تعتبر. استوقفني كاريكاتيرا نشر مؤخراً في إحدى صحفنا المحلية يصور اثنين من السياح الخليجيين لدى وصولهما أحد المطارات العربية (حيث يحتضن الساحل صخرة الروشة ويعانق التلفريك فضاءات الثلج الأبيض المتوسط) هناك كان ينتظرهما اثنان من سائقي الليموزين فيغمز أحدهما للآخر ويقول أبو زياد .. استلم ألف صحة وهنا !! ومازلت أذكر أحدهم الذي عاد للتو من سفر بعيد كلفه مبالغ طائلة فيقول لصاحبه هل تصدق يا أبا فلان أنني بحاجة ماسة لإجازة أخرى بعد إجازتي التي انتهت في سفر لم يترك لي من ذكرياته إلا التعب والشقاء والألم والخسارة، وهي بلاشك نتيجة طبيعية لهؤلاء فكم منهم خطط لرحلته وكم منهم درس وجهته بعضهم لا يعرف اسم عملة البلد الذي ينوي السفر إليه فضلا عن معرفة كم تساوي لعملة بلده، ولا يكلف نفسه بسؤال مجرب أو قراءة لدليل سياحي لمعرفة مالا يسع المسافر جهله من أماكن سياحية وثقافية وترفيهية وسكنية. (ربعنا) للأسف الشديد حين يحين موعد الهجرة إلى الشمال يصابون بالعشى الليلي والران القلبي فتعمى العيون وتطمس الصدور فتحركهم تيارات العشق الواهمة، وتسيرهم أمواج الشوق فينسلخ بعضهم من عاداته وأعرافه وتقاليده بمجرد أن يفرد جناحيه تأهبا للطيران، وعند الوصول هناك كما يصف عبد الله السفر في قصته (عطرالممرات) (ثمة حياة أخرى تسري في مقاهي النعمة والأكتاف المائلة تحتضن بقية من كلام، رشفة من حكاية تطل من ورقة مدعوكة بأرقام مكتوبة على عجل وبخط لاهث، يعيش لحظة مقبلة، يقلب عنها الرقم .. ينفض غيمة الأرقام .. الندى القليل الذي يبلل أصابع متخمة بالمفاجأة وطيب الوعد الآتي: يناور ليلا أسود تتمطى فيه ثعابين لزجة ساخنة) . وبعد العودة تكتظ المجالس بامتلاء الأجساد و (السوالف) التي أفرزها صيف ساخن بالأحداث والقصص و (البلاوي) المخجلة ومنها ما ذكره هذا الأب المكلوم المفرط فيقول (شغلتني الدنيا يا دكتور كلما كسبت مالا فكرت في المال الذي سأكسبه بعده .. جري .. جري .. جري ..وكأنني سآخذ معي لقبري كل المال الذي اجمعه، وفي جريي، نسيت عائلتي الصغيرة .. زوجتي وأبنائي، كنا عائلة متحابة، وعندما اغتنيت وانشغلت اعتقدت أنني قادر على إسعادهم بالمال وحده، اشتريت شاليها على البحر، في البداية كنت أقضي وقتاً لا بأس به معهم، أولادي الصغار يلعبون حتى يتعبوا ثم يناموا، ومع كثرة الأشغال، أصبحت اقول لهم: اذهبوا مع أمكم وسوف ألحق بكم، وبطبيعة الحال لا ألحق بهم، هكذا مرت الشهور، وأنا اعتقد أنهم على ديدنهم القديم فيما يفعلونه في الشاليه، عدت قبل فترة من إحدى سفرياتي وصفقاتي على غير ميعاد، وأحببت أن أفاجئهم، لم أجدهم في البيت، سألت خادمة بقيت في المنزل عنهم، فقالت: إنهم في الشاليه، ركبت سيارتي ووصلت إليهم في الساعة الثانية صباحاً كان الشوق يملؤني وجدت أبنائي نائمين ولم أجد زوجتي، وعندما أيقظت الخادمة من النوم، وجدتها مرتبكة، وبقيت طوال الليل أنتظر، أنظر من كل فتحة في المنزل، ومع تباشير الصباح، جاءت تمشي مع رجل غريب، عندما فتحت الباب وجدتني، وارتبكت أجلستها بهدوء، وسألتها السؤال الذي يملؤني : لماذا؟ ما الذي كان ينقصك؟ بدأت في البكاء وبعد أن هدأت قالت: أنت السبب كنا مستورين، عايشين، سعيدين، ثم أحضرتنا ورميتنا في هذا المكان، حيث كل واحد ينظر، كنت محتاجة لك، ومع الزمن وكثرة النظرات وكثرة التعليقات، وأنت تعرف الباقي وافترقنا بكل هدوء حفاظا على سمعة الأبناء والعائلتين، لكنني بعد أن جلست إلى نفسي، وذهبت إلى ذلك الشاليه مرات عديدة، فهمت ما تقصده ، إن أي إنسان يترك زوجته وأبناءه وحدهم في مثل هذا المكان، إنما يتركهم لذئاب لا يخافون الله. إن نصيحتي لكل إنسان لا تترك زوجتك وبناتك عرضة للمخاطر بسبب كثرة الأعمال، وتجنب الانفتاح وقلة الحياء والاختلاط بالطبقة السفيهة التي ترمي شباكها بحثا عن صيد تتسلى به لفترة قبل أن تتخلص منه لكي تبدأ التسلي بصيد آخر، إن النار اليوم تشتعل في قلبي بعد أن خسرت حياتي وزوجتي، وإذا كان من أحد ألومه، فهو نفسي التي كانت راعية، فلم تعرف كيف تحافظ على رعيتها !) وبعد .. فالقصص المؤلمة حول السفر و (أهواله) لها بداية وليست لها نهاية ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، ومن أراد المزيد فعليه أن يغشى المجالس المكتظة بالأجساد (والسوالف ) هناك ستباغته المفاجآت التي تناور ليلاً أسود تتمطى فيه الثعابين لزجة ساخنة. وليد سليم السليم