بالنسبة لكريس هيدجز، الصحافي في النيويورك تايمز الذي عمل كمراسل للشؤون الخارجية لمدة 15 عاما، كانت الحرب بمثابة العقار أو المخدر. فتحت تأثير إكسيرها تم أسره في السودان، وطرد من ليبيا ، ونصب له كمين في أفريقيا الوسطى وأطلقت عليه النار في كوسوفو؛ لقد كشف النقاب عن قبور جماعية وشهد فظائع ظلت ملازمة له. لقد شاهد زملاء له من الصحافيين الذين كانوا مثله يتنقلون من حرب إلى أخرى وقد تخلى عنهم الحظ وتعرضوا للقتل. يقول: هنالك جزء مني - ربما يكون جزءا من العديدين منا- يقرر في لحظة ما أنني أفضل أن أموت بهذه الطريقة على العودة مرة أخرى إلى روتين الحياة. إن فرصة الوجود في لحظة متوترة وطاغية ،حتى وإن عنت نسيانا معينا ، بدت فكرة مستحقة للعناء في خضم الحرب- تماما كما بدت فكرة غبية بعد أن تنتهي الحرب. بعد عقد ونصف العقد من الكتابة الصحافية عن الحرب، يقرر هيدجز أن يتوقف. لقد انصرف إلى التأمل في الخراب الذي شهده. المحصلة كانت كتابا رائعا عميقا مقلقا جاء في حينه.. مزيته الكبرى هي أنه سوف يزعج الشوفينيين ودعاة السلام والأخلاقيين والعدميين والسياسيين والجنود المحترفين على حد سواء. يجد هيدجز أن الحرب تفضح القابلية للشر التي تكمن ليس بعيدا عن السطح في داخل كل منا. إننا جميعا ملومون. إن الأساطير التي نعتنقها لنخوض حربا ما لم تتغير منذ أن كتب ديفيد هيوم في عام 1740 أن العدو فظ وغادر بطبعه بينما نحن منصفون؛ إن الجنرال الذي يحاربنا ما هو إلا مشعوذ يتلذذ بالموت في حين نسمي خيانة جنرالاتنا سياسة؛ نبرر عنفنا باعتباره شرا لا يمكن فصله عن الحرب. يطور هيدجز هذه الفكرة: إننا نجعل العدو شيطانا حتى يكف خصمنا عن كونه إنسانا. إننا نرى إلى أنفسنا ، إلى شعبنا ، كتجسيد للخير المطلق. إن أعداءنا يقومون بقلب نظرتنا للعالم لتبرير عنفهم. في معظم الحروب الأسطورية تكون هذه هي الحالة. كل طرف يحيل الطرف الآخر إلى أشياء ينتهي بها المطاف لتكون جثثا. الأسطورة والشعارات المرافقة لها ( محور الشر, الشيطان الأكبر) ذات نفع للسياسيين للتأكيد على ضرورة الحرب ولحشد تأييد العامة لها. ولكن على السياسيين أن يتوخوا الحذر، يقول هيدجز، من حرب تفقد زخمها الأسطوري كما هي الحالة في فيتنام. حينئذ يحكم على الحرب بالفشل لأنها تتكشف عن قتل منظم وتلك هي حقيقتها الفعلية. يأتي الأمر بمثابة المفاجأة حين يسقط هيدجز من اعتباره فكرة أن الحروب تولد نتيجة للاختلافات الإثنية والدينية؛ فمعظم الحروب، كما يعتقد، هي حروب مصنعة، تنتج عن انهيار المجتمعات المدنية ، ويديمها الخوف والجشع والرهاب ، وتدار من قبل رجال العصابات الذين يأتون من حضيض مجتمعاتهم ليرهبوا الجميع بما فيهم أولئك الذين يزعمون حمايتهم. إن الوطنية تمد الحروب بالوقود. إنها تضخ الدم في العروق ، وتوحد الأمة وتكسب الكثير من التأييد، ولكن خطرها، بحسب هيدجز، هو أن بإمكانها أن تتمكن من المثقفين والنقاد الاجتماعيين بنفس السهولة التي تستولي فيها على الجموع. على سبيل المثال، فإن الطغمة العسكرية البغيضة التي حكمت الأرجنتين وقتلت عشرين ألفا من مواطنيها أصبحت بمثابة المنقذ للأمة حين قامت باحتلال جزر الفوكلاند. اتحاد العمال والقادة المعارضين، الذين ما زالت آثار الضرب ظاهرة على البعض منهم، تم إخراجهم من السجن ليقفوا أمام الكاميرات ويصيحوا بهتافات جماعية تدعو لنصرة الوطن. لقد امتلأت الأجواء بقصص بسالة الجيش الأرجنتيني الذي كان إنجازه الوحيد هو القمع البربري لأبناء شعبه. وحتى في الهزيمة ، يكتب هيدجز: لم يستطع الأرجنتينيون أن يتخلوا عن أسطورة الوطنية. في أوقات الحرب ، تنتهي كل الدول إلى تحطيم ثقافاتها؛ وحين تقوم أسطورة الحرب بإغواء أمة ما لبلوغ المجد والتضحية، فإن أولئك الذين يشككون في قيمة الدافع وصحة الأساطير يوصمون بكونهم أعداء داخليين. (الحرب قوة تمنحنا معنى) كتاب يزخر بمشاهدات مروعة ومخيفة لهيدجز. إن كلماته أكثر قوة وأدل أثرا من الصور التي تغذي شبكات التليفزيون المشاهدين بها. وبالإحالة إلى حرب الخليج، يستنكر هيدجز شكاوى الصحافة من كونها قد استغلت. إن الصحافة ، كما يقول، أرادت أن تستغل. لقد رأت في نفسها جزءا من جهود الحرب. إن معظم المراسلين الذين يرسلون لتغطية الحرب لا يرغبون في الاقتراب من القتال ، وكنتيجة لذلك فإن هنالك عداء مرا بين مقاتلي غرف الفنادق وبين المراسلين من أمثال هيدجز ممن يذهبون بعيدا في ميدان الحرب. ولكن حتى أكثر المراسلين جسارة مذنبون بنفس الدرجة ، يقر هيدجز، لأنهم كذلك يؤمنون بأسطورة الحرب. أو أن عليهم أن يؤمنوا بها. حين تكف عن الإيمان تكف عن الذهاب إلى الحرب. لقد كان فرويد يعتقد أن كل تاريخ البشرية يمكن أن ينظر إليه كحرب بين إيروس وثاناتوس، بين الحاجة للحب، والصون، وبين الحاجة للتدمير. يزعم هيدجز أن إيروس وثاناتوس متداخلان طوال الوقت؛ لذلك فحين تنفجر قنبلة انتحارية ، فإننا نشاهد أقرباء الضحايا وهم يندفعون من بين أرتال المشاهدين ليصلوا إلى أحبائهم المشوهين. هذا الحب، مثل الموت، يرسل إشعاعه إلى الخارج. إنه يصارع ثاناتوس في نفس اللحظة التي يلسع فيها الموت. هذان الدافعان الأساسيان يتصادمان مثل كسارتين في بعضهما البعض...الحب وحده يصهر السعادة والمعنى. إن عنوان هيدجز مرتبط بهذه المفارقة: إننا نؤمن بالنبل والتضحية البطولية بالذات التي تتطلبها الحرب، خصوصا حين تكون أبصارنا مغشاة بأفيون الحرب. نكتشف في الكفاح الكوميوني، والحس المشترك بالمعنى والهدف، سببا و دافعا. تملأ الحرب خواءنا الروحي... وهذه ميزة تتقاسمها الحرب مع الحب، لأننا، في الحب، قادرون أيضا على اختيار الولاء والتضحية بالذات مقابل الأمان. إن قوة الكتاب تتراكم ليس فقط بسبب أن هيدجز قد سار في درب لا يجرؤ إلا قلة منا على السير فيه، ولكن لأنه قد حفر عميقا، ولم يكن خائفا من مساءلة ذاته، وقد توصل إلى حقيقة لا يمكن الفرار منها بالنسبة له :إن ميثاق الحب من القوة بحيث انه يقر بهشاشة وقداسة الفرد معا. إنه يتعرف على نفسه في الآخر.وهو وحده من بوسعه إنقاذنا. إن من الصعب تطبيق حدسه الشخصي هذا في أي من الصور التوجيهية. مرة أخرى، فإن هدف هيدجز النهائي ليس صرفنا عن الحرب - وفي الحقيقة فإن إغواء الحرب وحتميتها وحتى ضرورتها تظهر كثيمات متكررة في هذا الكتاب؛ ولكن هيدجز يريد منا أن نعرف الحرب بما هي عليه، لكي نرى نحن الذين نسيطر على قوى هائلة حول العالم ، في داخل أنفسنا بذور فنائنا.