لو نظرنا إلى أي حادثة سلوكية لوجدناها، مهما صغرت، مكونة من خطوات عدة، تتفاوت سرعة تتابعها بحيث قد تستغرق وقتا قصيرا لا يتجاوز الثواني وقد تمتد ساعات طويلة، حسب نوعية الحادثة ووفق محور الاهتمام. فإلقاء خطاب قد يستغرق وقتا طويلا بينما فتح باب لا يستغرق أكثر من ثوان عدة. المهم هو أن كل حادثة سلوكية تتكون من خطوات ظاهرة وأخرى خفية، وجزء من هذه الخطوات الخفية اصطلح على تسميته بالتفكير. ففتح الباب مثلا يتكون من خطوات خفية عدة إلى جانب الخطوات الظاهرة. تبدأ الخطوات بالإدراك الحسي للباب، الذي تؤثر في تفاصيله تجارب سابقة مع أشكال مختلفة له، ثم استذكار طريقة فتحه فالشروع في ذلك مع ما يستلزم ذلك من حركات عضلية متتابعة بعضها ظاهر وبعضها خفي، كل خطوة فيها تؤدي إلى الأخرى، ثم دفع الباب أو سحبه لينفتح. الخطوات التفكيرية في هذه الحادثة تتكون من إدراك الباب واستحضار طريقة فتحه، وتوقع أي مترتبات على فتحه، وهكذا. ولو أنك تتبعت عن كثب تفاصيل هذه الحادثة، على صغرها وتفاهتها، لاكتشفت أن تتابع خطواتها يحدث بتناغم تجده أخاذا. فالإحساس والإدراك والتذكر والتوقع والتحرك العضلي، ظاهره وخفيه، تتداخل وتتفاعل بتلقائية تحدد تناسقها وسلاستها مهارة الفرد المنبثقة من خبراته السابقة في هذا الموضوع ومواضيع مماثلة. أي أن الأوجه المختلفة للتفكير، مثل الإحساس والإدراك والتذكر والتوقع، تتداخل وتتفاعل مع بعضها ومع الحركات العضلية في تناسق سلس يؤدي إلى حدث سلوكي مترابط يحقق هدفا معينا، كبيرا كان أم صغيرا. هذا التناسق صار كذلك نتيجة لتكرار التجربة لنفس النمط من التصرف. إن هذا التفكير الومضي، الذي يتخلل الفعل المرئي ويتفاعل معه، ليس له وجود في النظام العلمي للعديد من علماء النفس، ربما لعتمة في مبصراتهم التحليلية تجعلهم غير مدركين لتمثلات التفكير على هذا النحو. وهذا الخلل يرجع بدوره إلى فهمهم القاحل للظاهرة السلوكية، الذي يقصي التفكير عنها، إذ لكل علمه حسب زعمهم. فالسلوك عندهم يقتصر على استجابة ظاهرة لمؤثر علني، أما ما يحدث بينهما فخفايا لا يجدي تناولها تحليليا. إلى جانب الركاكة العلمية لهذه النظرة فإن لها قصورا تقنيا يتضح من عجز كثير من التناولات العلاجية للخلل السلوكي عندما يحدث. ولكن هذا موضوع آخر.