بعد تحرير الكويت من قوات الطاغية صدام حسين في حرب الخليج الثانية، قام الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) بزيارة للكويت، وسجل مشاهداته الاجتماعية هناك، حيث أعرب حينها عن إعجابه بظاهرة التماسك الأسري في الخليج، وكيف أن الأسرة بكاملها تخرج في سيارة واحدة؟ بينما العائلة في أمريكا مفككة، فالأب له سيارة والأم كذلك والمراهق والمراهقة تبدأ بالتفرد والانفصال التام عن العائلة بمجرد الوصول للسن القانوني؟! نحن لسنا بحاجة إلى أن يذكرنا (جورج بوش) بمناقبنا ومحاسننا التي تشكلت عبر قيمنا الإسلامية، لكنها قراءة لمشهد اجتماعي ينبغي الحفاظ عليه. في هذه السطور نستعرض أهم ثلاث عناصر قد قمنا بتناولها في احد اللقاءات الثقافية وكانت تتعلق بتحقيق الانسجام بين الزوجين وقد علق احدهم ذات مرة أنه كلما طرأت مسألة أو شأن أسري سارعت الى تذكر ومراجعة العناصر الثلاثة وأقبلت على تنفيذها وغالباً ما كان يرجع الود والصفا الى مجراه الطبيعي.ان أول عناصر التماسك داخل الاسرة هو القدرة على (فهم النفسيات) بمعنى ضرورة أن يفهم كل طرف الارضية النفسية التي يقف عليها كل انسان (الرجل والمرأة) على سبيل المثال المرأة تميل بطبيعتها إلى الرقة واللين وتجاذب اطراف الحديث مع شريك حياتها لكن جهل الرجل بهذه الطبيعة قد يترتب عليه قسوة المعاملة لاعتبارات قد تكون مخالفة لاقوال الرسول صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله...) والمؤسف أن هناك ثلة من الرجال يمارسون نقيض هذه الوصية ؟ فيكون أحدهم بين اصدقائه ومعارفه وزملاء العمل طيب المعاملة ويريهم من وجهه كل بشاشة ولطف ومن لسانه اعذب الكلمات فاذا عاد الى منزله تجهم منه الوجه وكسا نفسه برداء الهيبة وحبس حديثه في نطاق الجد ولم يتكلم إلا بمقدار ! وقد يكون العكس صحيحا. ونستدعي مثالاً آخر لمسألة (فهم النفسيات) والذي يرتبط بما اثبته العلم من أن المرأة لديها القدرة على التجديد والابتكار أكثر من الرجل وذلك بحسب تقسيم المخ الى ايمن وأيسر ومعروف أن المرأة تميل الى استخدام الجزء الايمن من عقلها وهو الجزء الخاص بالابداع والقدرة على التغيير والابتكار والتخيل. لذا قد تواجه المرأة التي تميل الى التجديد وكسر الروتين في الحياة الزوجية سوء الفهم من قبل الزوج أو ضعف الاقبال على الجديد مما يترتب عليه عدم استمرار هذا السلوك الحسن ! هنا وجب على كل طرف أن يقرأ التجديد قراءة صحيحة وأن ينظر إلى الأصل في التجديد والدوافع الكامنة وراء محاولات التجديد لأنه سوف يكتشف انها رغبة صادقة من احد الطرفين لخلق اجواء من السعادة الزوجية. وهناك طرفة جميلة حول التجديد في الحياة الزوجية تقول : ان هناك زوجاً يبلغ من العمر (60) عاماً وله زوجة تبلغ من العمر (55) عاماً وقد فكر الزوج يوماً في تجديد حياتهما الزوجية فقال لزوجته : تعالي نلعب دور الخاطب والمخطوبة ونتواعد على الالتقاء في الحديقة عند الساعة الحادية عشرة مساء . في الوقت المعين تهيأ الزوج وذهب لشراء باقة ورد ووقف ينتظر خطيبته والمؤسف انها لم تأت فجلس ينتظرها حتى الساعة (12) ليلاً ولم تأت عندها شعر الزوج بعصبية وانزعاج شديد من زوجته لأنها لم تأت بحسب الاتفاق فرجع الى المنزل ورآها جالسة بكل هدوء فسألها عن سبب عدم مجيئها ؟ عندها قالت وهي تبتسم: أنت تعلم أن أمي لاتقبل أن اخرج وحدي في الليل ؟ في هذه اللحظة علت الضحكة وساد جو من المرح بين الزوجين.أما العنصر الثاني من عناصر تماسك الاسرة فهو يتصل بادراك آفاق ومتعة مسيرة الحب والوفاق الزوجي القائم على (الحوار) . أن (الحوار) في الحياة الزوجية يمثل حجر الاساس في التفاهم واذا انعدم الحوار بين الزوجين فان ذلك يعني اقامة حواجز وسدود مما يجعل البيوت أشبه بمقبرة احياء ظاهر الاسرة التماسك وباطنها الصمت والعزلة. والحقيقة أن هناك العديد من الدراسات التي تقول ان 85% من المشاكل العالمية سببها انعدام الحوار؟ ان الحوار بين الزوجين يساعد على طرح الامور الخلافية البسيطة على طاولة النقاش والتحدث عن الايجابي والسلبي ومن ثم التوصل الى قناعات وحلول مشتركة ومن الخطورة أن يستمر وتطول فترة (عدم الحوار) لأن طول فترة الصمت تبعث على الجفاء وقد يتطور الامر تدريجياً فيخصص كل من الزوجين غرفة نوم خاصة به وتعيش الاسرة في حالة من (الطلاق العاطفي) . وهنا تكمن الخطورة على مستقبل العلاقة ومستوى الود الحميمي بين الطرفين فاذا كانت الدراسات العلمية تقول ان المرأة تتحدث في اليوم الواحد بمعدل (13) ألف كلمة والرجل بمعدل (8) آلاف كلمة فان غياب الحوار وطول فترة الصمت والخصومة يعني كبت هذه الطاقة ؟ والسؤال : اين ستذهب هذه الطاقة ؟ حتماً ستذهب الى حوار نفسي داخلي سلبي تجاه الطرف الآخر؟ أو ان هذه الطاقة ستذهب الى الخارج (الاصدقاء والزملاء) مما يعني فتح ثغره في جدار وبناء هذه الاسرة. إن للحوار شروطا وضوابط، وإن عدم الالتزام بها يؤدي إلى قتل الحوار قبل بدايته. لذا يجب ان نهتم (بثقافة الحوار) ويجب الابتعاد عن النقد الجارح أو تحميل الطرف الاخر كامل الخطأ او المطالبة بالاعتذار أو تضخيم القضايا أو اجترار السوابق . كما نوصي بالا ينتهي الحوار على طريقة (ماوتسي تونغ) الزعيم الصيني الذي دعا جمعا من المثقفين الصينيين وشجعهم على الجهر بآرائهم في عام 1957 خلال حملة (دع مئة زهرة تتفتح) فصدقه المدعو (داي هوانغ) فعبر عن رأيه وجاهر به ؟ وجاءت مكافأته سريعة : (21) سنة سجنا لاعادة تعليمه وتثقيفه عن طريق العمل؟ فهل سيسمح الأزواج للحوار أن يتم على طريقة (ماو)؟ العنصر الثالث والاخير في عملية الحفاظ على بناء أسرة سعيدة ومتماسكة هو عنصر (التضحية). ولعل فكرة التضحية من الافكار التي لاتلتقي مع مكونات البناء الاسري في المجتمعات الغربية والسبب معروف للكثير من الاشخاص الذين عاشوا في الدول الغربية؟. ونحن ممن عاش هناك فترة من الزمن ولاحظ طبيعة العلاقة بين الزوجين. إذا نظرنا إلى طبيعة البناء الأسري في الغرب فسوف نلاحظ أنه يقوم على فكرة المساومة في الحقوق (Compromise) بمعنى ان الزوجة لها حقوق مدنية كفلتها المؤسسات المدنية وكذلك الزوج. فالتضحية في مفهوم علم النفس الغربي يقوم على جانبين: الاول الحب والجانب الثاني المكافأة بمعنى ان الانسان عندما يحب الطرف الاخر (زوجته) فهو أي الفرد يرغب في ان يخلع (الاخر) الحب عليه حتى يتحسس أهميته وقيمته الذاتية ؟ لكننا في ثقافتنا الاسلامية عندما نحب فان (الاخر) يحبنا بالضرورة لا لاننا (نرغب) في استحواذ واشباع حب الطرف الاخر فنحن نطلب الاجر من الله سبحانه وتعالى . وكذلك فيما يخص المكافأة فنحن نقدم التنازل للطرف الاخر ليس بعنوان الحصول على مقابل مادي أو قانوني بل نرجو الثواب في الآخرة. إذاً التضحية من أجل تماسك الاسرة والحفاظ على مستقبل ورعاية الابناء له بعد عبادي ويتسرب هذا الشعور بالأجر والثواب الى مكون حياتنا النفسي فيشعر الانسان وهو يضحي من أجل الابناء بسعادة غامرة. نحن نعتقد ان بوسع الابوة والامومة ان تكون من أعظم وابقى مصادر السعادة خاصة بالنسبة للنساء.. قال ابن المبارك وهو مع جيش المسلمين في احدى الغزوات: (أتعلمون عملاً أفضل مما نحن فيه؟) قالوا: (ماهو؟) قال: (رجل ذو عائلة قام من الليل فنظر الى صبيانه نياماً متكشفين فغطاهم بثوبه).. وقيل للزاهد ابراهيم بن أدهم: (طوبى لك فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة) قال: (لروعة منك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه). هنا ارغب في ان ألفت انتباه زملائي المدربين والممارسين للبرمجة اللغوية العصبية (NLP) عندما يتحدثون عن علاقة هذا العلم بالسعادة ان يقوموا بقراءة جديدة فيما يخص المستويات المنطقية للتغيير وهي مستويات ذات صلة باعتقاداتنا ويمثل المستوى الروحي اعمق المستويات وهو الذي يوجه حياتنا ويشكلها بوعي منا أو بدون وعي. فنحن دائماً بحاجة الى بعض الوقفات الذكية في تراثنا الديني ونسأل بعض الاسئلة مثلاً : الاخلاق الحميدة واحدة فلماذا حث الرسول (صلى الله عليه وسلم) بان تكون ممارستها في داخل المنزل أعلى درجة عند الله من ممارستها في الخارج مع الاصدقاء وعامة الناس؟ هل ممارسة الرجل للاخلاق الفاضلة خارج المنزل مع الناس لها دوافع من قبيل حب الظهور وبناء السمعة الطيبة؟ وهل التضحية من اجل سعادة الاسرة والابناء لها في ثقافتنا الاسلامية هدف ابتغاء مرضاة الله؟ اسئلة مهمة ومتعددة ونحن لانميل ان نقدم اجابات معلبة وجاهزة للقارئ لكننا نشركه معنا في التفكير وفي الاجابة عليها . كما اننا نقبل من القارئ لو قدم لنا توصية أو دعوة لتدريب اصول الحياة الزوجية في المدارس باعتباره فناً لابد من تعلمه ومعرفة قواعده ضمن منهج متكامل يدرس لطلاب وطالبات المرحلة الثانوية ليشتمل على شروط ومتطلبات الزواج الناجح.