قبل ثلاثة أسابيع، ليس أكثر، كان يصعب العثور على من يمكنه إبداء أي اهتمام في النقاش حول الجدار الفاصل في المحكمة الدولية في لاهاي. فالطاقم المهني الذي كان يستعد للنقاش عمل بشكل شبه خفي، ليس بسبب السرية وإنما، وببساطة، بسبب عدم الاهتمام من قبل أي شخص. وتم اتخاذ قرار مقاطعة جلسات المحكمة بشكل عابر، دون أن يكلف أحد نفسه عناء التعمق في أبعاد هذا القرار. وإذا كان هناك أي اهتمام، فقد نجم بالذات عن الاسم الغريب للمحامي اليهودي- الإنجليزي الذي ساعد الطاقم، دانيئيل بيت لحم. لكن، ويا للعجب، ما أن بدأت المداولات في المحكمة، حتى بدأ وكأنه ليس هناك ما هو أهم منها. فقد تم نقلها في بث مباشر، وأوفدت الصحف مبعوثين خصوصيين، وتم اقتباس مقاطع مفصلة من خطاب ممثل منظمة التحرير الفلسطينية لدى الأممالمتحدة، ناصر القدوة، ووصف دقيق ومتواصل للتظاهرات التي نظمتها الجهات الإسرائيلية واليهودية خارج القاعة. وكان يبدو، ليوم واحد، أن أمامنا حدثا يشبه في حجمه مؤتمر كامب ديفيد. وفي اليوم الثاني، طبعًا، يختفي كل شيء كما لو أنه لم يكن. وبالطبع تم دفع مداولات اليوم الثاني، بما فيها الخطابات الهامة لممثلي بليز والسنغال وبنجلاديش، إلى آخر نشرات الأخبار. كيف تحولت شبه المحاكمة هذه، التي أدارتها جهة تفهم قلة من الإسرائيليين ما الذي تفعله حقاً، في وقت لم تعترف فيه الدولة بهذه الجهة، بشكل ملموس، وفي وضع كانت الخسارة القضائية فيه شبه مؤكدة، إلى عنوان ساخن؟ يبدو أن التفسير لا يكمن في الجهاز الإعلامي الدسم (رغم أنه كان هناك من أبرز الاستعداد المكثف لوزارة الخارجية لهذا الحدث) أو في الأهمية الحقيقية للموضوع بالنسبة للعلاقات الخارجية أو لمستقبل الجدار، وإنما، بالذات، في كون القضية معروفة مسبقاً، بالذات لأن العالم كله وقف ضدنا في مسألة غير ذات أهمية. إن الشعور بأن العالم كله لا سامي ويعادينا، ويأتي كارهونا من كل طرف فيه، يعتبر السند الأساسي الذي تعتمده القيادة الإسرائيلية فيما تسميه "قوة صمودنا". كما أن الشعور بأن كل أشرار العالم، من كوبا وحتى أندونيسيا، اجتمعوا بشكل خاص من أجل مهاجمة عمل إسرائيلي، يساهم في تعزيز التجربة الراسخة عميقا بأننا نقف وحدنا - ولذلك نحن محقون. إن وحدة المهاجمين واستحالة حقيقة ظهور بعضهم معاً، تزيل التشكك الاعتيادي بما إذا كان عليك أن تذهب للنوم عندما يقول لك الجميع إنك ثمل. كلهم يقولون لنا أنتم مخطئون، لكن هذا يثبت، فقط، مدى مصداقيتنا. ليس مهماً أن الجدار نفسه يشكل موضوعًا للنقاش الشرعي حول مسائل كثيرة، منها: مدى نجاعته، ومساره، وإلى أي حد يرسم الحدود السياسية فعلاً. وليس مهمًا أن عملية إقامته كانت مشبعة بالإخفاق، وبغياب القرار والتلاعب السياسي الذي وصل إلى أوجه في إزالة عدة كيلومترات منه، فقط مع اقتراب النقاش في محكمة لاهاي. وليس مهما وقوف متحدثين أمريكيين محترمين ضد جوانب مختلفة للجدار. ففي اللحظة التي تقف فيها محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة، ينتهي لدينا النقاش. نصبح كلنا بمثابة حاييم هرتسوج الذي شجب القرار الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية. نصبح كلنا بمثابة بن جوريون الذي يدعي بأن مصيرنا منوط ليس بما يقوله الأغيار وإنما بما يفعله اليهود. نصبح كلنا ضد العالم - وكم يهمنا كون العالم كله ضدنا.