كشفت الدراسة التي ترجمها الى العربية محمد زكريا اسماعيل عن نمط تفكير الكاتب ومنهجه الذي يدور حول السياسة والعلاقات الدولية وخضوعها للتحولات الديموجرافية والاقتصادية الداخلية لكل من البلدان المعنية. والكاتب لا ينتمي الى عالم السياسة و (البوليتولوجيا) بل انه في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية يعمل مؤرخا وديموغرافيا ومن الاوائل الذين توقعوا (منذ عام 1976م) تفكك (المجال السوفياتي) واضمحلاله. أفكار رئيسة يبدأ الكتاب ب(فاتحة) تتكون من 33 صفحة تلخص عمليا كل مضمونه النص يعرض جميع الاستنتاجات اولا ومن ثم تتوزغ الفصول لبرهنة المضامين وتقديم نظام المحاججة مشيرا الى ان الافكار الرئيسة في هذه (الفاتحة) هي: 1- استراتيجيا المجنون حيث يرى تود ان الولاياتالمتحدة تتحول حاليا الى مشكلة للعالم الذي تعود أن ينظر اليها على انها الحل بينما هي الآن من اكثر العوامل سببا للفوضى وعدم الاستقرار في العالم بعدما كانت خلال نصف قرن الضامن الرئيسي للحريات السياسية وللنظام الاقتصادي العالمي. ويمضي المؤلف في شرح وجهة نظره هذه معددا اوجه الجنون الذي وضعت امريكا نفسها فيه بهدف انجاح عملية التهويل وبث الرعب في نفوس الاعداء وافتعال النزاعات في مختلف مناطق العالم مؤكدا انها لم تدع بؤرة في العالم الا واستفززتها بداية من ايرانوالعراق والكويت مرورا بكوريا الشمالية والصين وانتهاء بأقصى بقعة في العالم. ويوضح المؤلف استغراب الجسد الاوروبي من هذه السياسة ويقول: لا يفهم الاوربيون واليابانيون - حسب تود - لماذا ترفض الولاياتالمتحدة حل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي وهي قادرة على ذلك وهم يتساءلون بشك كبير الى اي حد تنظر واشنطن بعين الرضا لاستمرار بؤرة التوتر هذه في منطقة الشرق الادنى، والى اي حد لا تنظر الولاياتالمتحدة بعين الرضا ايضا الى تنامي الشعور المعادي لها وللغرب، لدى الشعوب العربية. صورة مزدوجة 2- انهيار صورة (الاب العالمي) ونشوء صورة المخرب العالمي حيث يقدم ما نويل تود فكرة تحليل نفسية لحالة الولاياتالمتحدة بعد 11 سبتمبر وانعكاساتها على علاقاتها مع حلفائها واعدائها. يقول ان عملية 11 سبتمبر فتنت علماء النفس لانها زعزعت التوازن لدى سكان الكرة الارضية، الراشدين منهم والاولاد. لقد نشأت بعد هذا التاريخ أزمة نفسية عرت التركيبة الذهنية في العالم، المبنية على فرضية اعتبار أمريكا القوة العظمى الشرعية والوحيدة على الصعيد العالمي. مما كان يريح مؤسسها وأعدائها على حد سواء وأصبح هؤلاء اليوم كالأولاد الذين يعانون من (نقص) في السلطة أكانوا بحاجة إليها سلبا (للتمرد عليها) او إيجابا (للاحتماء بها) فبعد انتهاء العمليات في افغانستان بدا وكأن العالم امام احتمال فعلي لصوغ توازن طبيعي: انتصرت الولاياتالمتحدة واستعادت صورتها كقوة (خارقة) فيما سائر البلدان، بعد مشاركتهم بمهمة اعادة الهيبة الى الاب الجريح ظنوا انه بمقدروهم العودة بهدوء الى مشاغلهم الاقتصادية اليومية، كذلك ظن اعداء امريكا التقليديون انه بمقدورهم العودة ايضا الى عادتهم الازلية بالتشهير التعويذي بالامبراطورية الامريكية. لماذا لم تعد أمريكا ويطرح المؤلف عدة تساؤلات متسامحة وهي الأمينة لتراثها العقلاني؟ ولماذا تتدخل بهذه الوتيرة المرتفعة وتبث عدم الاستقرار؟ وفي محاولة الرد على هذه الاسئلة يرى الباحث أهمية اعداد نموذج تفسيري لسلوك هذا البلد على الصعيد الدولي، لكن لا يمكن برأي تود ولوج هذا البحث الا بعد ان نكون قد تخلينا عن الصورة النمطية التي يروجها اعداء امريكا التقليديون وهي انها تعاني من مشكلة القوة المفرطة. منظومة من الحجج 3- مشكلة القوة والتراجع والتبعية الاقتصادية حيث يعتقد المؤلف ان اعداء امريكا يروجون دائما لمنظومتهم من الحجج التقليدية التي تتلخص بالمقولة الآتية: (امريكا سيئة بطبيعتها لأنها، كدولة، تجسد الطابع الشرير للنظام الرأسمالي) هذا (المعسكر) المعادي تقليديا وخارج الزمن للولايات المتحدة يرى ان (امريكافيتنام) هي نفسها (امريكاالعراق) وامريكا الحرب الباردة هي نفسها امريكا ما بعد سقوط الشيوعية، النموذج الممثل لهذا الفريق داخل الولاياتالمتحدة هو نعوم شومسكي وخارجها كل انواع اعداء العولمة وفلول اليسار القديم، ومنهم شخصية يصفها تود ب(المميزة) كوزير للخارجية الفرنسي السابق اوبير فيدرين صاحب مفهوم (القوة الخارقة) لوصف حالة الولاياتالمتحدة اليوم. ويعتبر تود ان هذا النظام التفسيري لا يشرح شيئا لأنه ينطلق من حالة ثابتة أزلية هي قوة الولاياتالمتحدة بينما المطلوب هو الفرضية العكسية تماما اي ان الولاياتالمتحدة قوة ضعيفة او قوة تضعف. والمفارقة الكبرى برأي الكاتب ان هذه الفكرة ليست من نتاج ابداعات اعداء امريكا بل هي تماما الفكرة الاساسية التي روجها (الاستبلشمانت) الفكري الثقافي الامريكي خلال العقدين الماضيين! فمن بول كينيدي الى صموئيل هنتنجتون ومن بريجبينسكي الى كيسينجر الى روبرت جيلين، خلفية نظرية واحدة تقول ان الولاياتالمتحدة ابعد ما تكون عن كونها قوة لا تقهر وهي الآن في وضع من يدير بالتي هي احسن (او اسوأ) حتمية تقلص نفوذها في العالم، الذي يزداد نموا سكانيا واقتصاديا، كل واحد من هؤلاء المثقفين العضويين ومن زاوية اختصاصه توصل الى استنتاجات قلقة حول حالة القوة الامريكية واظهر ان سطوتها على العالم تبدو اكثر هشاشة ومهددة اكثر من أي وقت مضى. وتساءل الكاتب لماذا اصبحت الولاياتالمتحدة بأمس الحاجة الى العالم؟ والجواب هو لأن مجمل بنية اقتصادها تغيرت، لم تكن النتيجة الاساسية للهيمنة الامريكية على العالم بين 1950م و 1990م احداث تغيرات في البلدان التي كانت تشكل العالم الغربي الحر فحسب بل احداث تغيرات في الداخل الامريكي، تغيرات في البنية السكانية الامريكية في الاقتصاد الذي تحول من مكتف ذاتيا الى اقتصاد تابع. ويصبح السؤال تاليا: كيف تدار (قوة خارقة) تابعة اقتصاديا وبدون جدوى سياسية؟ الديمقراطية المضخمة 4- الحداثة والتطور الفعلي للمجتمعات: التربية والتعليم الجماهيري؟ يعود الكاتب في هذا المحور الى معاينة حالة الديموقراطية مقارنا بين مراكزها التقليدية ومنابعها التاريخية ومراكزها الجديدة التي تغطي مساحة من شرق اوروبا الى جمهوريات وسط آسيا ويلاحظ ان الديمقراطية في تراجع داخل المراكز التي كانت فيها قوية وفي تقدم داخل المناطق التي كانت فيها ضعيفة. لذلك لم يعد من الممكن التعويل التام على (ديموقراطية الادارة الامريكية) لتفادي النزاعات العنيفة، اي لم يعد بمقدرونا الجزم بان امريكا مسالمة بطبيعة نظامها. وينتقد الكاتب اسلوب الديمقراطية الذي تتبعه الولاياتالمتحدة مشيرا الى انه لا يقودها الى طريق صحيح، مشيرا الى ان الافراط بديموقراطية التعليم وتعميمه ليطاول المستوى الثانوي والجامعي يهدد في النهاية الديموقراطية ويجعلها (حكما طغمويا) لان نخب التعليم الثانوي خصوصا الجامعي العالي سوف تضرب عرض الحائط مفهوم المساواة وتعيد انتاج مجتمع نخبوي غير متساو لا يستسيغ كثيرا ديمقراطية الاقتراع العام الشعبية. خلاصة 5- النموذج التفسيري وتعليق اخير حيث يخلص المترجم الى ان الكاتب ينبغي من هذا الكتاب الذي يتكون من ثمانية فصول برهنة عدة فرضيات يواجه منها ان العالم اليوم انعكاس مسار التبعية بين العالم والولاياتالمتحدة وانعكاس دينامية الديموقراطية لتتقدم في القارة الشرق اوروبية - الآسيوية ولتتراجع في الولاياتالمتحدة. وان دور الولاياتالمتحدة المدافع عن نظام ديموقراطي ليبرالي قد انهى، كما ان هدف الولاياتالمتحدة السيطرة سياسيا على الموارد العامة، لكنها لا تستطيع تحقيق هذا الهدف في عالم يستطيع اعاقة مشروعها بفاعلية كبيرة، لانه اصبح واسعا جدا، كثيفا سكانيا، اكثر تعلما واكثر ديموقراطية. نظرة تود النقدية الى الولاياتالمتحدة قد تجذب القوى المعادية لها تقليديا، بسبب ما تسميه (القوة الخارقة) و(مشروع قيام الامبراطورية الجديدة) او بكل بساطة نظرية الامبريالية التقليدية، لكن لا شك في ان جزءا كبيرا من الكتاب سجال مع هذه الفئة ورفض لنظامها التفسيري القائم على مفهوم قوة الولاياتالمتحدة وليس على مفهوم بداية تقهقرها ولعلنا نستطيع القول من خلال هذا الاستعراض ان امريكا بحاجة الى اعادة نظر في سياستها في التعامل مع الجميع، بما فيهم الاصدقاء والاعداء لكن ما عرض من تحليل لا يبشر بخير، فما يبدو انها ماضية في استخدام قوتها المفرطة في سبيل تحقيق اهدافها بغض النظر عن الاعتبارات الاخلاقية او القانونية، ما يهم الولاياتالمتحدة هو فرض سيطرتها وحسب. اسم الكتاب: ما بعد الإمبراطورية: دراسة في تفكك النظام الأمريكي. المؤلف: ايمانويل تود - ترجمة: محمد زكريا اسماعيل. الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر. عدد الصفحات: 223.